لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الرابع/الفصل الثالث
استعادة هذه الثقة بالنفس شرط ضروري غير كاف. واعتقد أن تركيا استعادتها وأعادت الثقة لشعبها بهويته لكن العرب ما زالوا بعيدين عن هذه الغاية وهو ما سيكون مادة لبحثي الآن. فما الذي جعل قلب الإسلام ومنبع النشأة الأولى ينكص إلى تكوينات اجتماعية بدائية أخرجته تقريبا من التاريخ؟
فبعد الدولة الأموية في المشرق ثم خاصة بعد الدولة الأموية في الأندلس لم يبق للعرب دور يذكر في تاريخ الإسلام ولولا ولاء شعوب إسلامية غير عربية لكانت دولة الإسلام قد انقرضت بانقراض دور العرب الذي بدأ بعيد هارون الرشيد في المشرق وبعد سقوط الأمويين في الاندلس.
والحمد لله أن الشعوب التي تداولت على دولة الإسلام -الموحدة سياسيا أو الموحدة ثقافيا على الاقل- لم تقض على وحدة اللسان الشامل للثقافة العلمية فلسفية كانت أو دينية وإلا لما لكانت ثقافة الإسلام قد انفرط عقدها مع ضمور دور العرب فيها بتبني هوية عربية لجل القيادات تبركا ساعد على ذلك.
لكن دور الوحدة الثقافية ضمر بالتدريج ولم يبق منه إلا البعد الديني أولا لأن العلوم ذات الصلة بعلوم الطبيعة وأدواتها وحتى بعلوم التاريخ وأدواتها صارت أثرا بعد عين وثانيا لأن الهنود والفرس والاتراك عادوا بالتدريج إلى لغاتهم لكنهم لم يضيفوا أمرا يذكر بعد انفراط عقد الوحدة اللسانية.
فالمبدعات العلمية بغير اللغة العربية في الثقافة الإسلامية لا قبلها ولا بعدها لا يعتد بها وليس فيها ما يمكن أن يضاهي ما تحقق لما أصبحت العربية لسانا رسمية لكل المبدعين المسلمين أيا كانت اثنيتهم. لذلك فالكلام عن المؤسسات والكيانات الاجتماعية مداره حول نكوص الابداع والاجتماع.
والآن ما المقصود بالمؤسسات والكيانات الاجتماعية التي تعنينا في هذا البحث؟
في فصل سابق تكلمت على أمر كثيرا ما يقع إغفاله: فعندما قلت إن الإسلام ألغى الوساطة الروحية (الكنسية) والوصاية السياسية (الحكم بالحق الإلهي) وأن ذلك حرر الفرد والجماعة لكنه ترك فراغا كبيرا يحتاج إلى بدائل.
ذلك أن الحرية الاولى أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه تركت فراغا اجتماعيا لكيان كان يؤدي الكثير من الوظائف التي نسميها اليوم وظائف المجتمع الاهلي مثل التربية والصحة والانتاج المعرفي وكل ما يتعلق بالمستوى الثاني من الوجود الاجتماعي أي الاسترماز.
وهي مهمة تكفل بها تدريجيا ما نسميه بالأوقاف أعني بنوع من تكفل المجتمع الأهلي بتمويله وتنظيمه ورعايته وكان يمكن أن يكون ذك بديلا يحقق وظيفة مؤسسة الوساطة دون أن يكون وسيطا بين المؤمن وربه ما يعني أن ما كان مقصودا من إلغاء الكنسية ليس وظائفها المدنية بل وساطتها الروحية.
كما أن الغاء وصاية الحكم بالحق الإلهي لتحقيق الحرية السياسية للفرد والجماعة في الإسلام (وهو باق في التشيع) كان من المفروض أن يعوضه نظام الانتخاب وسيلة لتحقيق البديل وهو نظام عسير التحقيق وشديد التدرج حتى في اوروبا الحديثة فنشأ منه مسخ هو البيعة المفروضة بعد تشريع التغلب.
وكان من المفروض ان ينتج عن هذين النوعين من البدائل عن الوساطة والوصاية كل المؤسسات الاجتماعية التابعة للسياسي والتربوي وبين بعدي الحكم نجد المؤسسات الاجتماعية التي لها صلة بالاقتصاد (مثل النقابات المهنية والتجمعات المهنية) وبالرعاية الاجتماعية (مثل الصحة والعوز).
ويجمع بين كل هذه الكيانات الاجتماعية البديلة من الوساطة والوصاية ما يوحدها فيعلل كونها الوصل الدائم بين السياسي والتربوي مثل الوسائط الحادة من الصدام والاحتكاك بين مكونات المجتمع حتى يكون الوجود الجمعي سلميا ما أمكنت السلمية وأعني وسائل تحقيق ما يسميه ابن خلدون الانس بالعشير.
وهو نوع من المؤسسات الاجتماعية التي هي ليست سياسة وليست تربوية وليست تضامينة وليست نقابية ولا مهنية لكنها أهم من ذلك كله وتتعلق بمجال عام يشغل فراغات بين كل ما سبق وهو علة كل ما سبق وسماه ابن خلدون الانس بالعشير أو الذوق والاخلاق العامة: تنظيم الحياة المشتركة في السراء والضراء.
ويمكن اعتبار هذا المجال هو جوهر ما يملأ الفضاء العام والخاص في أي جماعة وهو ما يضفي على الحياة مسحة الجمال والجلال وفيه تبرز حقائق أي مجتمع الدفينة لأنه هو غاية كل ما سبق الكلام عليه في الجماعة ومن دونه لا تكون الجماعة بحق جماعة إنسانية. وقد سماه ابن خلدون التنازل للأنس بالعشير.
ومن اهم ظاهرات اليوم الالعاب والرياضة والحفلات الجماعية والمظاهرات وكل أشكال التعبير بما فيها أشكال التعبير الديني والمساجد والمقابر والأعراس والمهرجانات والمعارض إلخ…. وكلها قابلة للتوظيف في الانشطة الاقتصادية والسياسية والتربوية ولكنها مطلوبة لذاتها وهي الاجتماعي المطلق.
وكلها ينطبق عليها مفهوم الظاهرة الاجتماعية الكلية لمارسال موس (Phénomène social total) لتضمنه كل أبعاد الوجود الإنساني ولتمثيله للإنسان من حيث إنسان اجتماعي بالجوهر. وهذه آخره المؤسسات التي أريد أن أفهم ضمورها السابق الدال على ضمور الحياة والإبداع في حضارتنا.
ولما كانت كل الظاهرات الاجتماعية موضوع للدرس الاجتماعي فإنها كما أسلفنا شبه لامتناهية فمثلا دراسة الظاهرة السياسية اجتماعيا لو أخذنا كل عنصر من مقومات الدولة الخمسة (المرجعية والقوى السياسية والدستور والهيئة الحاكمة-المعارضة ووظائف الدولة العشرة لصارت شبه لامتناهية.
ولكل منها دور في تهاوي الجهاز الاسترمازي الذي تستعمله الجماعة لعلاج علاقتيها العمودية والافقية حتى تكون جماعة حامية وراعية لذاتها وهو ما علينا إعادة بنائه في السياسة والتربية وما بينهما من الظاهرات التي حاولت حصرها في هذه المحاولة. وكل واحدة منها شبه لامتناهية.
ولا عجب في الامر فالظاهرات الاجتماعية أشد تعقيدا من بعدي الكيان الإنساني وتفاعلاتهما أعني من الطبيعي والتاريخي أو من المادي والرمزي في كيان الإنسان فردا وجماعة وخاصة عندما ننظر في الصيرورة والسيرورة التي تجري بها الظاهرات وتفاعلاتها لتحدد الحال الاجتماعية في لحظة ما.
فلو أردت دراسة الحوافز والمثيرات التي جعلت شباب الأمة بجنسيه الآن يصبح عامل التحريك الأول للفاعلية الاجتماعية رغم أن ذلك ليس من عادات مجتمعاتنا التي خمدت فيها جذوة الحياة وأصبحت تسير على دبيب شيوخها وعجائزها لوجدت في ذلك بصيص أمل للاستئناف.
ذلك أن الامة في نشأتها الأولى لم يكن محركها الشيوخ بل شباب من الجنسين أحاطوا بالرسول وآمنوا بالرسالة فكانوا قيادات حققت معجزات لا يوجد من لا يعجب من تحققها في امة كانت على هامش التاريخ في ذلك العصر أكثر مما هي الآن. ومن المثير أن قادة الفتح كان بعضهم في سن المثالية (دون العشرين).
ولهذه العلة فأول شرط للاستئناف أن يحرم على من تجاوز سن الرسول عند ارتقائه للرفيق الأعلى تحمل أي مسؤولية مباشرة في إدارة شؤون الامة مستقبلا. قد يقبل مستشارا لمن يتحمل هذه المسؤولية من الشباب بجنسية من الذين أعادوا للامة أمل الاستئناف فتجاوزوا خرافة التعارض بين الإسلام والحداثة.
وسنرى في كلامنا على التربية كيف يمكن أن يصبح بوصع نظام الأمة التعليمي معدا لمن يجمع بين شروط المسؤولية الخمسة: قوة الإرادة وقوة العقل وقوة القدرة وقوة الحياة (الذوق) وقوة الرؤية أعني ما كان يمثله شباب الامة بجنسيه من طاقة مبدعة قادت النشأة الأولى لتقود الاستئناف.
وأن يكون كل نوع من النخب غلبت عليها إحدى هذه الصفات بقيادة من كان الأبرز في تلك الصفة حتى تصبح النخب بأصنافها الخمسة تتحرك بأفضل ما هو ممكن لأن ما ينتظر الأمة وما على شبابها تداركه هو ما تخدل في ذمتها مما يجب تداركه لأنه مركون أربعة عشر قرنا من الاستثناء التاريخي الفاعل.
وإذا بدأ شبابنا بجنسيه وكأنه فاقد للأفق والانطلاق فلأنه لم يجد مشروعا يلهب فيه الطموح للفاعلية الكونية ولأن نظامه السياسي والتربوي والاجتماعي بينهما وما وراءه من صلة بما يشد وجوده إلى منشوده قد فقد القدرة على الإيحاء الإبداعي والتحريك الخلاق لفرط سوء استعماله بعلوم زائفة.
وتلك هي علة البدء بالكلام على فساد علوم الملة التي هي العلة الاولى والأساسية لتعطل كل الفعاليات التي تعالج قضايا العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والافقية بين الانسان والتاريخ مع جعلنا غرباء في الطبيعة البكماء لأننا لم نتعلم لسانها وتابعين في التاريخ الذي كدنا نخرج منه.
وكل ما أحاوله من شرح لما حصل حتى نصبح ما أصبحنا هو الجواب عن هذه الأسئلة المحيرة للشباب بجنسيه والتي شلت حركته فجعلته مترددا بين نوعين من الانتحار باسم فهم رديء للحياة الدنيا (الهجرة بالارتماء في البحر) أو باسم فهم أردأ للآخرة (التحول إلى أدوات لمجرمين شوهوا أسمى قيم الإسلام).