إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – القسم الخامس – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

القسم الخامس/الفصل الرابع

ويصح على الاستئناف ما قاله نيتشة على دلالة التاريخ (Unzeitgemässe Bertrchtungen) مع ما بينته من تحفظ على مثله بإضافة الوسيطين بين اولاها وثانيتها ثم بين ثانيتها وثالثتها. فالتاريخ المعلمي والتاريخ المتحفي والتاريخ النقدي ثلاثتها ضرورية في كل استئناف بشرط الوسيطين.

فالمعلمية هي قيام الروح في الجماعة وهي آثار وتراث وشخصيات ورموز لكنها تموت إذا لم يوجد ما يحول دونها والتحول إلى متحفية. فالمتاحف مثل المقابر هي حفظ الآثار التي لم يعد لها من الحياة إلا الذكريات. فقدت التحريك المشدود إلى المستقبل. وهذا هو دور حرية إبداع المعالم اللامتناهية.

وهذا هو الفرق بينه وبين النقد الذي يقاس على توالي الاجيال الحية بحيث إن الجيل السالف يدفن من الجيل الخالف ولا يبقى حيا فيه ومحييا له لأن المعلمية ليست معلمية إلا بقدر ما تمثل معيار القدرة الإبداعية ليس النهائي بل الدال على أن الممكن يبقى دائما ممكنا فلا يحصر في الماضي: فاعلية الرموز.

وإذن فالمتحفية ليست نوعا من التاريخ بل نوع من جموده ومن ثم فهي تنتج عن عدم الوسيط بين المعلمية والمتحفية والوسيط ليس النقد الهدام الذي يقيسه نيتشه على لامبالاة الحياة أو الفنان الذي يبدع بمعزل عن الخير والشر بل هو فعل التربية الذي يجعل المعالم تواصل الحياة فلا يكون التاريخ مقبرة.

وهنا يأتي الوسيط الثاني بين المتحفي والنقدي. فالنقدي ليس للمتحفي بل لما يجعله ذا دلالة مقابرية. إنه علاقة بالمعلمي رعاية له وتقريبا من ذوق الشباب بجنسيه حتى يبقي فيه على الحي فإن المثلث يصبح بالوسطين عين حياة الحضارة التي تحيا بالوساطتين المعبرتين عن فاعلية الفكر الاسترمازية.

الاحتذاء النقدي هو عين ما عرفت به مفهوم السن بديلا من مفهوم السنة. فما يتعلمه الخالف من السالف ليصبح سالفا هو بدروه لخالف يليه هو أن حفظ الماضي ليس القصد منه المسنون بل القدرة على السن: فأبطال الامة مثلا قد لا تكون بطولاتهم مثلا عليا للمستقبل لكن فعل البطولة في حد ذاته هو المعلم.

بقي فصلان في هذا الجزء سأخصص الحالي لأشكال المؤسسات التربوية والموالي لمضمونات التربية وبذلك أكون قد فرغت من المحاولة كلها بأقسامها الخمسة ولكل منها خمسة فصول فتكون مؤلفة من خمس وعشرين فصلا لبناء شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها تداركا لما فقدناه من علاج العلاقتين.

وسؤال المؤسسات إذا وضع بالالتفات إلى الماضي فجوابه ينبغي أن يحفظ المعلمي فيما حقته تجربة الامة وأن يحرره المحتفي من المقبرية فيكون في آن جامعا بين المحافظة والتجاوز. والقصد من الجمع جعل المؤسسات التربوية ما نتصور عليه المستقبل الذي يحفظ ويتجاوز بمنطق علاقة المنشود بالموجود.

وأهم مشكل في المؤسسات التعليمية هو تمويلها وتحقيق أفضل الشروط لجعلها نسخة مصغرة من المجتمع المنشود في كل ما تحتاج الجماعة لسد الحاجات المادية والروحية بحيث يكون نظام التربية صانعا لمن سيصنع كل أدوات علاج العلاقتين العمودية والأفقية بصنفي الاداة الشارطة للنظر وللعمل ولغاياتهما.

ولما كانت هذه الحاجات التي على نظام التربية سدها لا تعالج قضية داخلية فحسب بل هي بالجوهر في تناسب مع حال الحاجات في العالم وكانت هده مردودة إلى شروط الحماية وشروط الرعاية الذاتيتين بوصفهما شرطي الحرية للفرد والسيادة للجماعة فإن نظام التربية يصبح من أغلى الأمور كلفة.

وقد ورثنا نظامين في سد هذه الكلفة: نظام تمويل الأوقاف ونظام تمويل الدولة ولم نصل إلى نظام تمويل المستفيد من ثمرات البحث العلمي أعني الشركات والمؤسسات الاقتصادية التي تستعمل براءات الاختراع في منتجاتها التي هي بضاعة أو خدمات تمثل أهم مصدر لربحها فتمول البحث وتتسابق فيه.

وهذا يعني أن التربية لم تصبح بعد مسألة اقتصادية وما تزال عندنا وكأنها مسألة محو امية وليست تكوينا لكفاءات انتاجية إما للثروة المادية أو للثروة الرمزية ما يجعل المشكل الجوهري غائبا عن الاذهان وهو التالي: هل الدول العربية التي هي محميات لها القدرة على تمويل بحث علمي بمنطق عصرنا؟

لم يعد البحث العلمي الأساسي عملية ورقة وقلم بل هو يتطلب تجهيزات تقنية غير ممكن لحجم معين من الثروة والسوق التي تمكن من استرجاع كلفة البحث العلمي المنتج لتموين المتعلمين بالمادة العملية الإبداعية ولذلك فهو من أهم علل تكون المجموعات الكبرى. ومحركاه هما الحماية والرعاية.

صحيح أن البحث العلمي الأساسي هدفه المعرفة للمعرفة بصورة عامة لكنه في الحقيقة مدفوع فعلا وفي الغاية بضرورات الدفاع وضرورات الاقتصاد. وفي ذلك حتى لو فرضنا تونس قد وضعت كل منتجها الخام في خدمة العلم فإن ذلك لا يكفي لبحث قابل لمنافسة حتى الهند فضلا عن امريكا.

وبذلك تصبح مؤسسات التربية في مجتمعاتنا في الحقيقة مؤدية لعكس الغرض منها: فهي تكون الكسالى والعاطلين وأنصاف المثقفين والإيدلوجيين ولا تكون قوى عقلية تقنية لعلاج لعلاقتين بالطبيعة وبالتاريخ لأن المجتمعات التابعة والقزمية لا نصيب لها في علاجهما بل بسبب التبعية والحجم.

فيصبح نظام التربية والتعليم حائلا دون الانتاجين المادي والرمزي بدلا من أن يكون “مصنعا” لأصحابهما الذين يصنعوهما فيكون المجتمع صانعا للإنسان الصانع والإنسان يكون إنسانا بقدر ما يكون صانعا لأن صنعه لما به يحقق العلاقتين هو صنع لذاته التي هي ثمرة العلاقتين عضويا وروحيا.

ولا شك أنه يمكن لنظام تربية متخلف ان يبرز فيه بعض الموهوبين. لكنهم سرعان ما تنطفئ فيهم الموهبة إن لم يرحمهم الله بالهجرة إلى بلاد فيها شروط البحث العلمي المادية والخلقية. ذلك أن مجتمعاتنا لا يكفي ما تعانيه من عوائق مادية فإن العوائق الخلقية تقتل كل إمكانية لبروز الموهوبين.

ومن ثم تجتمع المعوقات الثلاث بأصنافها اللامتناهية: المعوقات السياسية والمعوقات الاجتماعية والمعوقات التربوية النظامية التي هي كلها خاضعة لمنطق المحسوبية واستبعاد الكفاءات وترقية كل القابلين لما وصفت خاصة في المعيقات الاجتماعية التي تتمثل في فساد معاني الإنسانية: أدواء للعلاج.

والعلاج الأول والأساسي والذي لا شيء يمكن أن يتحقق من دونه هو مشكلة الحجم: فعندما تدعي كل قبيلة عربية أنها دولة والكل يعلم أنها محمية فلا أمل لتحقيق شروط نظام تربوي يمكن أن يبدع ما به تعالج الجماعة العلاقتين علاجا يوفر لها شرط الحرية والسيادة: الحماية والرعاية الذاتيتين.

ستبقى كل الدول العربية وبصورة أدق المحميات العربية بلادا تستورد ما تأكل وتبيع ما ورثت عن الأجداد ثرواتها الطبيعية وعندما تنضب ستبيع الارض ثم العرض ونحن نرى ذلك قد بدأ ولست بحاجة لرفع السبابة فأشير إلى ما يفهمه الجميع. ما بقينا على هذا النحو فنحن إلى انقراض.

وسأفترض أن هذا الشرط قد تحقق فأصبح لنا الحجم الكافي للبحث المحقق لشروط الحماية والرعاية سيكون الشرط الثاني أن تصبح العربية لغة كل العلوم والشرط الثالث أن تصبح المنظومة التربية وثيقة الصلة الفوقية والتحتية بعلاج العلاقتين: العلوم الأساسية للعلاج النظري والتطبيقية للعملي.

والعلاج النظري هو علاج الاسترماز أو مجال البحوث الأساسية وهي باهظة الكلفة إذ منها البحث في أسرار الطبيعة والتاريخ وفي غزو الفضاء وفي انتاج شروط الدفاع وشروط الرعاية (المنتجات الاقتصادية التي تتجاوز مجرد جني ما تنتجه الطبيعة. وهذا هو مستقبل القوة في العالم: الغذاء والدواء.

والعلاج العلمي هو كل المهن التي تحتاج إليها الجماعة لسد حاجاتها أولا وللتجارة في العالم شرطا في التبادل الذي يمكن من سدا بالحاجات بما ينتجه الغير مقابل ما تنجه الجماعة. وهذا شرط التوازن في علاقات التبادل لأن العرب لا ينتجون شيئا يمكن أن يبادلوه غيرهم عدا الخامات.

وآخر كلامي على المؤسسات هو أسلوب تسيير المؤسسات التربوية ودور الأطراف المتدخلة فيها: ففي القلب المتعلم والمعلم وعلى الطرفين أهل المتعلم المحتاج لإنتاج التعليم (رجال الأعمال إن وجدوا والدولة إن كانت دولة ذات مشروعات تحتاج للعلم) والموحد لهذا المربع هو سلطة شرعية تخطط للمستقبل.

فإذا تم تسيير المؤسسة التربوية ديموقراطيا وكان للمتعلم والمعلم فيها حرية التصرف في إدارتها باعتباره معمل بحث علمي وعملي وباعتبارهما مسؤولين على كل ما يتعلق بها وخاصة نظامها ونظافتها وامنها واخلاق التعامل فيه ورفعت يد السلطة السياسية عليها أمكن الكلام على نظام تربية حقيقي.

وشرط ذلك هو أن تصبح المؤسسة التربوية بمستوياتها الخمسة

  1. (ما قبل الابتدائي

  2. الابتدائي

  3. الثانوي

  4. الجماعي

  5. وأخيرا ما بعد الجامعي أو التكوين المستمر) نظاما مستقلا عن تسلط السياسي والنقابي فإنها سيتوالى إدبارها إلى مجرد محو امية لا دور له يذكر في الإنتاج العلمي والاقتصادي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي