لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الخامس/الفصل الخامس
بعد كلامنا على الشكل حان الآن أوان الكلام على المضامين. وبه نختم المحاولة كلها إذ هذه هي غاية الفصل الاخير من الجزء الأخير. وللكلام في المضامين إذا كان لعلاج العلاقتين نجد خاصية كونية تدرجت إليها الإنسانية حتى صارت الآن شبه كونية لوحدة أهدافهما بالنسبة إلى الإنسان كإنسان. لا شك أن للتربية غايات مختلفة عند النظر إلى مستويات النضوج الحضاري المختلف بين الجماعات وما يترتب عليه من تحديد للأوليات المناسبة لظروفها لكنها تمر في الغالب بنفس الظرفيات بحسب مراحل النضوج الحضاري بمستوييه المادي والرمزي رغم اختلاف الأساليب الثقافية الخصوصية. فللتربية مقومان: 1. يتعلق بالتربية التي الخاصة باكتشاف كيان الإنسان البدني والروحي أي الذوقي والفكري وتنميتهما وهي لا تختلف إلا بمقتضى مسألة النضوج الحضاري والعلم بطبيعة الحاجات البدنية والروحية. 2. تأهيل الإنسان إلى حياة سوية وإلى وظائفه في تقسيم عمل الجماعة بحسب ميوله وقدراته. وغالبا ما يكون الاختلاف بين الامرين بحسب الجماعات ناتجا إما عن ايديولوجيا الخصوصية فتصبح الانظمة التربوية تتمايز بمقادير المضامين وتراتبها لكن المضامين تتجه إلى الوحدة فيهما معا بقدر تقدم العلم بعلم الحياة علم النفس والتأهيل او التنشئة الاجتماعية للإنسان وهي كلها كونية في الجملة. ولكن على أرضية هذا الكلية في التكوين البدني والنفسي والتنشئة الاجتماعية لكيان الفرد ولأعداده لدور في نظام توزيع العمل في الجماعة وكلاهما يقتربان من الوحدة وخاصة بعد تحقق شبه الوحدة في الحاجات وفي سوقها العالمية تتحدد خطط التمكين مما به تتم السيطرة على المضامين المختصة. وهي حسب رأيي تعود إلى ما يمكن أن نسميه العلوم المساعدة لكل ما عداها من العلوم أو علوم الآلة باللغة التقليدية في ثقافتنا: وهي: 1. اللسان (أو الالسن) 2. والتاريخ أو ما به ترتب الموضوعات المعرفية كتكوينيات منتظمة بحسب توال منتظم 3. المنطق 4. الرياضيات 5. نظرية المعرفة أو الإدراك العلمي وفي الحقيقة يبدو الكلام على الإدراك العلمي او نظرية المعرفة وكأنه أمر فلسفي شديد التعقيد وهو غاية وليس بداية. لكنه في الحقيقة هو موجود ضمنا في الاربعة المتقدمة عليه لأنها ليست ممكنة من دونه بل هي سره كونها مشروطة فيما عداها من العلوم: أربعتها أنظمة تلق وبث معرفي شرطها رؤية لهما. ويمكن القول إنها بالنسبة إلى الفكر مثل نظام الحركة المنتظمة التي بها يسيطر الإنسان على ذاته وعلى ما تتعامل معه ذاته من أشياء العالم الخارجي بالنسبة إلى أعضاء البدن. إنها أعضاء الفكر التي يتعامل بها مع رموز أشياء العالم المسترمزة أو المصوغة باللسان والتاريخ والمنطق والرياضيات معرفيا. ومثلما أن البدن لا يستطيع الحركة في العالم المادي من دون أن يربى على الحركة المنتظمة في عالم الأشياء وأن يكون له خارطة للمكان والزمان فإن الفكر لا يستطع الحركة في العالم الرمزي من دون أن يربى على الحركة المنتظمة في عالم الرموز وغالبا ما يكون العالم الثاني شرط العالم الأول. ورغم أنه لا أحد يجهل أن للبدن قوانينه وأحكامه الخاصة لكن الإنسان له خاصية استمداد سلطانه الفعلي على البدن من الإرادة والفكر ما كان سليما -طبعا في حالة المرض يختلف الامر-وذلك بفضل التمرين والتدريب والتعويد لأن الانضباط البدني هو ثمرة التربية ومنها آداب السلطان على أفعال البدن. فالبدن هو نفسه جزء من التعبير بل هو بحركاته وردود افعال جزء مقوم من لغة التواصل ومن ثم فالتحكم فيه وفي أدوات التواصل والترجمة الرمزية للمعرفة بالعالم المحيط أو العلوم المساعدة هي البداية المضطرة لكل تربية في كل حضارة ومن أشهر الأنظمة التربوية فيها أساليب حضارات الشرق الاقصى. فيكون الهم الاول هو التناغم بين البدن والروح وهو المرحلة الاولى من كل تربية وليس مشروطا فيها أن يكون المضمون مادة تحفظ بل روح وموقف من الأشياء تتعلم من هذه الفنون التي تشحذ الفكر والبدن وتحقق التناغم بنيهما ليصبح الإنسان سيدا إلى “تجهيزه الفني” للتعامل مع الأشياء ورموزها ومع غيره. وخلال التمكن من هذه الفنون الخمسة ومعها التمكن من التحكم في فعل البدن ورد فعله يحصل تصنيف أول للمواهب والميول عند الأطفال لأن هذه العملية هي جوهر المرحلة الابتدائية وما قبلها. ثم تبدأ مرحلة المراقبة للمواهب والميول حتى يتم التوجيه بحسب المؤهلات في مقومات الذات وبها يكون التصنيف. ومرحلة المراقبة هذه المعدة للتوجيه تدوم ثلاث سنوات يتلقى فيها الجميع تكوينا في المقومات الخمسة أي في تنمية الإرادة (وهي لانتخاب القيادات عامة) وفي تكوين العلم (وهي لانتخاب المبدعين في المعرفة) وفي تكوين القدرة (وهي لانتخاب المبدعين في القدرة المادية الاقتصاد).. ثم في تكوين الحياة (وهي لانتخاب الذواقين في الإبداع الجمالي بكل اصنافه) ثم في تكوين الرؤى الوجودية (وهي لانتخاب أصحاب القدرة على صوغ الرؤى الوجودي الدينية والفلسفية). وهي القسم الاول من المرحلة الثانوية تنتهي بالتوجيه في واحد من هذه المواهب والمؤهلات بكل اختصاصاتها. فتكون المرحلة الثانوية مؤلفة من جزئين (ما قبل الثانوي والثانوي) مثل الابتدائية مؤلفة من جزئين (ما قبل الابتدائي والابتدائي): والثانوي هو للتخلص المعد للدراسات الجامعية التي هي بحث علمي من البداية بمعنى أن الطالب يدخل للجامعة في اختصاص تابع لأحد المجالات الخمسة المذكورة. وهي كثيرة: فلو أخذنا مثلا مجال العلم لكانت الاختصاصات بحسب أحد العلوم الطبيعية أو الإنسانية التي هي معلومة في تصنيف العلوم وتكاملها لأنها كلها مثلا لا بد فيها من العلوم المساعدة لها. والتعليم فيها جميعا ليس همه كم المضمون بل روح العلاج التي تمكنه من حيازة كمه في تعلمه الذاتي. وهذا يعني أن المؤسسة التربوية ينبغي ان تكون مجهزة بالمخابر والمكتبات والمتاحف الطبيعية للنبات والحيوان والتاريخية للإنسان والحضارات بحيث تكون مقومات العالمين الطبيعي والتاريخي بين يدي المتعلم الذي هو باحث مثل معلمه فتكون طريقة التعليم ليست تلقينية بل حوارية في النظرية والخبرة. كما أن المؤسسة التربوية ينبغي أن تكون لها مجالس وسلط وكأنها دويلة صغيرة وفيها يتعلم الطلبة إدارتها بالطريقة الديموقراطية وتداول السلطة في إدارتها وفيها كل شروط الحياة وخاصة الملاعب والمساجد وكل الممارسات الفنية والجمالية التي تجعل الجيل يتخرج وهو مواطن تام التهيئة ليؤدي وظائفه. وهذه الوظائف يجمعها مبدأ الإنسان السوي من أي جنس كان بمعنى أنه كائن اجتماعي حاصل على شروط المشاركة في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بعد أن تكون في دور معين اختاره بنفسه للانضواء في الجماعة بوصفه مشاركا فيها كامل الحقوق والواجبات. بذلك نعد جيل المستقبل لمواصلة البناء. وينبغي ألا يكون الوقت المخصص للعمل الذهني معادلا للوقت المخصص للعمل اليدوي وكلاهما لا يتجاوز خمس ساعات اليوم لأن الأقسام الاربعة الاخرى تتعلق بعمل الطالب الشخصي فيكون الخمسان لتكوينه وبالباقي لاهتماماته الخاصة غير الدراسية خمسان للنوم وخمس للراحة والأمور الخاصة. وينبغي أن يكون الأسبوع الدراسي مؤلفا من خمسة أيام لأن يوما يكون لمن يمارس العبادات والحياة الدينية يوم الجمعة لأن الغالبية مسلمة ويوم في وسط الأسبوع لقضاء الشؤون الخاصة والراحة الأسبوعية فيكون العمل السبت والاحد والاثنين ثم الراحة يوم الثلاثاء والعمل يوم الأربعاء والخميس. وليس في ذلك تكلف بل هو شرط الانضباط والديسيبلين: فنظام التعليم نوع من الخدمة العسكرية رغم أنها ذات تسيير ديموقراطي بخلاف الخدمة العسكرية. هي تعمل بالانضباط العسكري للوصل بين البدني والذهني من أجل تحقيق التناغم ومن هنا يكون دور الرياضة مهما ولا بد أيضا من تعلم فنون الدفاع. ولا تقتصر فنون الدفاع على نوعه الرياضي كما في مدارس الشرق الاقصى القديمة بل لا بد من أن يكون في خلال الدراسة التكوين العسكري للجنسين لأن من شروط حرية الشعوب أن يكون الشعب كله قادر على حماية الجماعة وهو معنى الجهاد فرض عين في حالة الدفاع. والدفاع ممارسة على علم. وما من أمة بقيت حرة بحق من دون أن تكون كلها مشاركة في الاجتهاد (التواصي بالحق) ومشاركة في الجهاد (التواصي بالصبر) وبذلك تكون قد أعدت للإيمان بما تؤمن به وللعمل الصالح فتحقق الوعي بشروط عدم الوقوع في الخسر أو عدم فساد معاني الإنسانية فيها فتستأنف دورها الكوني. انتهى.