لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الخامس/الفصل الثاني
ولا يدري من يكفرني بما قلت عن التلازم بين الخبر والإنشاء الشرطي في حديث الرسول بأنه يكذب الرسول فيتوهم أنه يعلم غيب المستقبل. ما يعلمه الرسول كمجتهد هو ما يعلمه أي مجتهد: يعلم العلاقة الشرطية بين الشرط والمشروط. فكل ما يخبر به عن المستقبل يضمر: سيحصل كذا إذا فعلتم أو لم تفعلوا كذا.
ما يمكن أن يكفرني به كاريكاتور التأصيل هو تسليمي بأن الرسول لا يعلم الغيب عامة وغيب المستقبل خاصة. ولا يدري أنه يحمل الرسول نتائج هذا الكذب عليه فيصبح حديثه جله عرضة للتكذيب من قبل كاريكاتور التحديث. المسؤول عن الحرب على الحديث هو نسيان الشرط وانتظار المشروط كأنه قضاء وقدر.
والشرط في كل حديث الرسول هو العمل بما جاء في التذكير الاخير أو الرسالة الخاتمة. وما جاء فيها هو ما حصل قلبه رأسا على عقب بسبب الفتنة الكبرى وما تلاها من حروب أهلية أدت إلى حالة الطوارئ التي حكمت القوانين الاستئنافية فعطلت الدستور السياسي حكما وتربية والدستور المعرفي علما ومنهجا.
وهذا الكلام يصح على علاقة كل ناصح بمنصوح: فلو قال أب لابنه رأى فيه شيئا من الابتعاد عن تطبيق قواعد السياقة مثلا سيقع لك كذا مضمرا إذا لم تصلح علاقتك بقوانين السياقة فإنه لم يخبره بما سيقع بل أخبره بشرط تجنبه. ومن لم يفهم ذلك فهو جاهل بفن العربية وبفن الكلام الشرطي على المستقبل.
وهذا من المبادئ الاساسية في التربية: بل إن وجود الكلام على الماضي في إعداد أجيال المستقبل هدفه هو الاعتبار بما فيه من هذه العلاقة بين الشرط والمشروط في الفعل الحر. فنحن نتكلم بالشرطية الممتنعة على الماضي فنقول لو تجنب فلان كذا لما حصل له كذا ونعلم أن السيف قد سبق العذل.
ولو كان التاريخ -الفعل الحر إلى حد- مثل الطبيعة لامتنع أن نتكلم على الماضي بالشرطية الممتنعة: لو تجنب فلان كذا لما حصل له كذا أو لو عمل فلان كذا لتحقق له كذا. هذا مستحيل في الكلام على الماضي حتى في الفعل الحر لكن الكلام عليه يدل على أن الفعل حر: جوهر المطلوب في التكوين للمستقبل.
والأهم أن ذلك يصح حتى على الطبيعة: فحرية الإنسان المشروط بالعلم تجعله قادرا على التدخل في مجراها بتغيير الشروط للحصول على المشروط الذي يريده إذا علم قوانين فعلها رغم أن فعلها ضروري. لكن الضروري في فعلها هو العلاقة بين الشرط والمشروط وليس المشروط بمفرده: ذلك سر قوة العلم.
وذلك هو معنى قولي إن العلم أداة الإرادة أي إن حرية الفعل الإنساني لا تعني إلغاء قوانين الطبيعة الضرورية وسنن التاريخ التي لا تتبدل ولا تتحول بل هي تعني أن العلم بالعلاقة بين الشرط والمشروط وبين العلة والمعلول تمكن من تغيير النتيجة في المعلول بتغيير الشرط او العلة: اساس التعمير.
فيكون الاستعمار في الأرض مشروطا بالعلم بالعلاقة بين الشرط والمشروط وبين العلة والمعلول وهو جوهر علوم الطبيعة وعلوم الإنسان بمعنى أن الله جهز الإنسان بأدوات تحقيق الاستعمار في الارض والأمة لما انحطت قتلت هذه الاجهزة ومن ثم فكلامي على العلوم الزائفة قصده قتلها لهذا التجهيز.
وقد بين ابن خلدون أن فساد معاني الإنسانية يعني يؤول إلى فساد مقومات الإنسان السوي أعني إرادته وعلمه وقدرته وحياته ورؤيته للوجود كما بينت وطبق نفس الامر في التربية وفي الحكم أي في بعدي السياسة كما يعرفها القرآن والفلسفة (افلاطون وارسطو). فالسياسة تشمل التربية والاخلاق حتما.
وكل من يخرف عن الأخلاق خارج السياسة -ولا أعني بالسياسة التخابث في الفعل الآزف الذي يوجد في كل علم عاجل حتى في الأخلاق والفقه-لا يفقه أيا منهما فهي استراتيجية تكوين الإنسان ليحمي نفسه ويرعاها كعضو في جماعة تعالج العلاقتين العمودية والافقية أي ما به يعمر الإنسان الارض بقيم ما.
الاخلاق ليست احكاما ذهنية على الأفعال والاقوال والاشياء بل هي قيم متعينة في أفعال هي بالجوهر علاقات بالذات وبالغير حول رهانات التبادل والتواصل بين البشر. ومن يتصورها ممكنة بمعزل عن الغير لا يفهم أن الفرد لا قيام له كفرد إلى بوصفه عضوا في جماعة على الاقل العلاقة بين الجنسين.
وغالبا ما يكون المتكلمون على الاخلاق بمعزل عن السياسة بمعنى فن التعامل مع الغير وهو ليس مقصورا على العلاقة السلطوية هم في الغالب مصابون بكراهية عميقة للغير وحساسية مرضية في التعامل والتواصل وهو مرض الانطواء الناتج عن عدم الثقة في الذات. إنه التوحد المستفيد من الجماعة دون خدمتها.
مشكلة هذا الفهم العقيم هو تصور السياسة مقصورة على ما له صلة بالحكم والسلطة. وهم الابتعاد عن السياسة سوء فهم لمعنى السياسة: مجرد الوجود الإنساني سياسي بمعنى أنه عمل ضمن مشروع شامل لحياته سواء كان ذا صلة مباشرة بالسلطة فعلا أو بصورة غير مباشرة انفعالا.
فالقول إن من يقتل نفسا بحق حق أو يحييها بحق فكأنما يقتل الناس جميعا أو يحييهم جميعا يعبر عن هذه العلاقة التي تمثلها السياسة بمعناها الذي هو جوهر الوجود الإنساني بما فيه من خلقي موجب او سالب بما فيه من المقومات الخمسة الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود: الكل مسؤول.
وعندي أن كل دعوة لتجنب هذه المسؤولية الجماعية في رعاية الشأن العام من علامات الانحطاط الذي آلت إليه حال الامة. ففضلا عن كون ذلك لا يجنب المرء عواقب ما يحصل حتى لو دس نفسه في مغارة فإنه دليل تفكك أواصر العمل الذي لا يكون أبدا فرديا حتى في حالة التوحد: كل أدوات الفرد جماعية.
فلا بد للمتوحد من اللغة ومن التراث الرمزي والمادي ومن العناية بذاته غذاء ودواء وكل ذلك يصبح عند المتوحد كذبا على النفس فضلا عن كونه “عدم” اخلاق لأنه دليل استفادة بجهد الآخرين من دون مقابل. لذلك فالنظام الديموقراطي أكثر اخلاقية من أي نظام لأنه يلزم الجميع بدوره في الخيارات الكبرى.
وأخيرا فالمتوحد دكتاتور عاجز. كان يتمنى أن يكون الواحد الحاكم بأمره. فشله يجعله يدعي أنه صار غنيا عن الجماعة فيتوحد. لكنه في الحقيقة لا قيام له إلا بما ينتظره من اعجاب بهذا الموقف الذي يترجم على أنه عزوف عن الدنيا وهو في الحقيقة ليس عزوفا بل سوء فهم لتوالج العالمين.
فلا فرق عندي بين من يتصور الاستخلاف ممكنا من دون الاستعمار في الارض وهو الموقف الديني التوحدي أو الخلقي التوحدي وهو مناف تمام المنافاة للرسالة الخاتمة أو التذكير الاخير وبين من يعكس فيتصور الاستعمار في الارض كافيا ومغنيا عن القيم الاستخلافية التي تضفي عليه معناه الروحي.
وكلامي على هذا التوالج ليس منطلقه الإيمان بالإسلام وحده بل ما رأيت فيلسوفا كبيرا في تاريخ الفلسفة بعصوره الاربعة: اليوناني والعربي واللاتيني والحديث خلت فلسفته من هذا الجمع بين الطبيعة والتاريخ وما ورائهما الذي يضفي عليهما معنى ويمكن الإنسان من السكن فيهما.
وقد يعجب الكثير من المؤمنين أني لا أستثني حتى ماركس ونيتشة من هذا الحكم. لكن ماركس يجعل الماوراء الذي يضفي المعنى محايثا للتاريخ السياسي والاجتماعي ونيتشه يجعله محايثا للفن وللحياة. ومعنى ذلك أن العالمين متلازمان دائما حتى بالنسبة إلى من لا يؤمن بالأديان: الدنيا تضيق بالإنسان.
وتوكيدي على هذا التلازم مدخلا لما سأقوله عن المؤسسات التربوية هدفه التحرر من الكاريكاتورين الناتجين عن وهم التضاد بين الديني في كل دين (الإسلام الذي يصف نفسه بكونه الدين عند الله) والفلسفي في كل فلسفة (طلب الحقيقة لذاتها) حتى نستأنف باسترداد ما بفقدانه فسدت معاني الإنسانية.
أطلت التمهيد للكلام في مؤسسات التربية المشروطة في إعادة البناء للاستئناف أعني استئناف دور الأمة في استعمار الارض بقيم الاستخلاف حتى تستعيد دورها في نظام العالم الذي نراه يتشكل والأهم فيه أنه قلب العالم ومنطلق الرسالة يتشكل على حسابها وخاصة حساب اغلبيتها السنية عربا وأتراكا.
وكان لا بد من توضيح العلاقة بالانقلابين الدستوريين السياسي حكما وتربية والمعرفي علما ومنهجا والأول ينظم العلاقة الافقية بالإنسان والتاريخ خاصة والثاني ينظم العلاقة العمودية بالعالم والطبيعة خاصة والتداخل بين الامرين يجعل كلا الدستورين ذا دور فيهما بتقديم وتأخير وبأقدار مختلفة.
وكان لا بد في ذلك من تحرير الدستورين من الانقلابين ومن حالة الطواري والقوانين الاستثنائية التي تحول دون السياسة والمعرفة وأداء دورهما في علاج معضلات العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية بالتاريخ تحريرهما من دروشة الدراويش للإسلام وفصل الاستخلاف عن الاستعمار في الارض.
كل التخلف والانحطاط مصدره هذه الدروشات التي جعلت الامة عزلاء عاجزة عن حماية نفسها داخليا وخارجيا والسقوط في حروب أهلية لا نهاية لها أدت إلى تفتيت الجغرافيا شرط القدرة المادية وتشتيت التاريخ شرط القدرة الروحية وقلب كل قيم المرجعية فصار فهم الرسالة الخاتمة بعكس قيمها.