لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الخامس/الفصل الأول
أشرع الآن في الجزء الخامس والاخير من كلامي على شروط الاستئناف أو إعادة بناء شروط تحقيق الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف. وقد تكلمت في الجزء الرابع في المؤسسات الاجتماعية الوسيطة بين السياسية والتربوية وآن أوان الكلام في المؤسسات التربوية موضوع البحث الاخير.
وكنت قد وعدت أن اتكلم في المؤسسات الاجتماعية بالاعتماد على نظام مقومات كيان الإنسان المستعمر في الارض والمستخلف بمنظور قرآني وهو منظور يظن فلسفيا فحسب أعني أن الإنسان في علاقة بعالمين طبيعي منه قيامه العضوي وتاريخي أو رمزي منه قيامه الروحي والفكري: العلاقتان العمودية والأفقية.
لكني عند التنفيذ اقتصرت على غاية هذه المقومات التي تنتهي بها قائمتها أو مصفوفتها أعني الوجود أو الرؤى الوجودية التي هي توجد في الجماعات البشرية بشكلين رغم وحدة المطلوب لولا التحريف الذي يطرأ على هذا أو ذاك منهما أو عليهما معا فيصبحان متعاديين لكأن الفصل بين العالم وما ورائه ممكن.
وإذن فقد اغفلت بقية المقومات التي عند عرضها بترتيب معكوس هي بعد الوجود الحياة ثم القدرة ثم العلم ثم الإرادة وهي في آن مقومات كيان الفرد ومقومات بنية الجماعة إذا اعتبرنا هذه المقومات هي عين ما به تتحقق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف أو بدونها كتقسيم عمل شبه طبيعي.
ومعنى ذلك أنه لا توجد جماعة في التاريخ يمكن أن تخلو ممن يقومون بتمثيل إرادتها (السياسة) ومعرفتا النظرية والعملية (العلم) وقدراتها المادية (الانتاج المادي أو الاقتصاد) وحياتها (الذوق في شكل الفنون خاصة) والوجود (الرؤى العامة للعالم سواء بالشكلين الديني والفلسفي): إنها أصناف نخبها.
ولم يكن ذلك لأن الجزء الخامس تجاوز الحجم الذي خططت له فحسب بل لئلا اضطر لتكرار كلامي بسبب أهمية هذه المقومات في مسألة المؤسسات التربوية كما سنرى ولأنها في الحقيقة مقومة للأجزاء الخمسة وكان ينبغي أن أترك الكلام على هذا التقويم للجزء الاخير من الخطة: خطة الفكر ليست ثابتة دائما.
فالمحاولة من البداية إلى النهاية ليست عرضا لمعرفة سابقة ودروسا لتعليمها بل هي محاولة تنكشف لصاحبها بالتدريج لأن الموضوع ليس مطروقا وله غايتان: نظرية هدفها إعادة تأويل منعرجات تاريخ الأمة الروحي ليس بمنهج تاريخي يستعرض الوقائع بل بمنهج بنيوي يكشف تشابك فاعليتها المادية والرمزية.
وقد يكون أهم مناط لإبراز هده الفاعلية هو مفهوم الزمان التاريخي وكون الحاضر فيه ليس إلا بؤرة التفاعل بين الماضي والمستقبل في مستوى الأحداث بمعنى أن ما لم يبق موجودا ولم يصبح موجودا هو الموجود الاقوى في تاريخ الإنسانية لأنه في مستوى الأحاديث يتحول إلى فاعلية التذكر وفاعلية التوقع.
وفاعلية التذكر وفاعلية التوقع هما ما يميز الإنسان عن كل ما عداه من الكائنات الحية: فهما مقوما الاسترماز وفرعا فاعليته التي يجعل الموجود يفعل بما فيه من المفقود ويجعل المنشود يفعل بما يدركه من المفقود في الموجود فتكون فاعلية التاريخ هي عين استراتيجية الأمة الحية السياسية والتربوية.
فيتبين أن الهدف الثاني عملي وهو الجواب عن السؤال التالي الذي هو معلن في عنوان المحاولة بأجزائها الخمسة: كيف نحقق شروط الاستئناف أو شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف أو كيف نعالج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقية مع التاريخ لتستعيد الأمة دورها لكوني في نظام العالم.
فيكون التذكير الاخير أو الرسالة بيان بالتلازم الصلتين بين الإنسان ومثاله الأعلى (الله) في سياسة العالم الطبيعي (مستعمرا في الارض) والتاريخي (مستخلفا فيها) في شكل اختبار دائم لأهلية الاستخلاف والعبادة هي التلازم بين هذين المستويين من الوجود الإنساني: مستعمر ومستخلف في الأرض.
وطبعا فالجمع بين العلاج الفلسفي لإشكالية بناء المؤسسات التي تحقق الاستئناف والتأسيس الديني للمشروع في آن هو الذي قد لا يعجب أصحاب الكاريكاتورين لأنهم يفصلون بين دوافع الفعل التاريخي التي هي روحية دائما سواء كانت بالإيجاب أو بالسلب (الإيمان بالاستخلاف او الكفر به) والعلم أداتها.
ذلك أني بينت أن الدوافع لا منبع لها غير الذوق الذي يعود في الغاية إلى الذوق الغذائي والجنسي في منطلقه ثم يرتقي ليصبح ذوق كل تعيناته الرمزية التي تصحبهما أو تحققهما لطالبهما في الجماعة التي ينتسب إليها والعلم في كل هذه الحالات هو ثمرة البحث عنهما في المستويين الفعلي والرمزي.
وفي مصفوفتنا المقومة للوجود الإنساني الدوافع تعود كلها للحياة أو الذوق وهي تحصل في رؤية وجودية دينية أولا لأنها عامة لكل البشر سواء كانوا علماء او حتى أميين ثم فلسفية عندما تصبح قادرة على صوغها بترميز قادر على جعلها قابلة للتعليم والنقل بين البشر فتتراكم كمنظومة خبرة إنسانية.
وهذه الدوافع النابعة من الذوق الحيوي بمعنييه العضوي المباشر (الغذاء والجنس) والرمزي غير المباشر كل ما يعبر عنهما أو يوصل إليهما من وسائل وطرق تترجم إلى إرادة إما مباشرة منهما أو من التعبير الرمزي عنهما أو عما يوصل إليهما تحتاج إلى علم وخبرة وإلى قدرة وثروة. تلك هي المعادلة.
وتلك هي شروط الاستئناف التي علينا استردادها بعد أن فقدناها بسبب ما أصاب معان الإنسانية عندنا من فساد وهي غاية كل نظام تربية هدفه تكوين الأجيال الخالفة لتجاوز الأجيال السالفة تجويدا لما حققته وتداركا لما أغفلته إذا اعتبرنا المنظومة التربوية مخبر المستقبل في الجماعة.
ولا بد هنا من التذكير بطبيعة هذه العلاقة بين السالف والخالف. فهذان المفهومان قلبا كما قلب الدستوران السياسي حكما وتربية والمعرفة مطلوبا ومنهجا. فالسالف في العربية يعني المتقدم ليس في الزمان فحسب بل وكذلك في تحقيق مهمتي الإنسان أي الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها: ريادة.
ولما كان كل جيل سالف قد كان خالفا فمعنى ذلك أن ريادته هي كونه سالف الخالف المقبل فيكون خالفا لما سبقه وسالفا لمن يليه ومن ثم فهو ينطبق عليه ما ينطبق على مفهوم التربية: أي إنه مجهود عمل من سبقه ومتدارك لما غفل عنه حتى يكون دائما رائدا: فما يقلد منه هو فعل الريادة لما مفعولها.
فتكون السنة هي ريادة السن وليست تقليد المسنون. وهذا هو القلب الذي نتج عن قلب الدستور السياسي حكما وتربية والدستور المعرفي علما ومنهجا فأصبحت الأمة لا تكون روادا بل ببغاوات يحفظون المسنون وليس لهم قدرة السن. فلا يتم تجويد الحاصل ولا تدارك الفاشل فيتركم الفشل والقعود الدائم.
وقد يظن الكثير أن ذلك لا ينطبق إلا على علوم الملة بمعنى أن هذه النظرة كانت مقصورة على المعرفة الدينية وهذا خطأ فادح علته أكاذيب كاريكاتور الحداثة. فأكبر فلاسفة العرب من حيث العلاقة بالعلم هو الفارابي بعد الكندي: إنه يقول في الحروف العلم تم مع أرسطو ولم يبق إلا أن يتعلم ويعلم.
وإذن فهذا القلب والذهنية المقلوبة لم يكن خاصية يتفرد بها علماء الدين بل هي خاصية عامة في ثقافة نجدها حتى عند أفلاطون الذي يعتبر الزمان التاريخي محكوما بما يمكن أن نسميه أن الزمان التاريخي مثل الزمان البايولوجي له أعمار تنتهي بأرذل العمر وهو إذن متنازل وليس متصاعدا.
وحتى ابن خلدون فهو متأثر بهذه الفكرة وهي أن الكائنات الحضارية مثل الكائنات العضوية مآلها الفساد وأن ذلك شبه حتمية تاريخية جنيسة للحتمية البايولوجية. وهو غير صحيح حتى في البايولوجيا عندما نفصل بين الفرد الحي والنوع. فتوالي الأجيال العضوي لا يخضع لهذا القانون ناهيك عن الحضارة.
وطبعا فسأجد من يلجأ إلى اعتبار كلامي هذا فيه تكذيب لما ينسب إلى الرسول في مفاضلته بين الاجيال فضلا عما حصل فعلا بعد حصول الفتنة والانقلابين السياسي والمعرفي. لكن ذلك ليس فيه تكذيب بل فيه وصف للتجربة الأولى لحال الامة وهو إن صح التعبير جزء من التحذير من عدم العمل بالتذكير.
فكما بينت في محاولة سابقة بعض الخبر هو إنشاء: فعندما يخبر الرسول بما سيحصل ففي خبره إنشاء بمعنى أن ذلك سيكون كذلك إذا لم تعملوا بالتذكير الاخير. هو خبر شرطي. وبهذا المعنى ينبغي أن يفهم كل حديث صحيح لأن الرسول منزه عن الكذب ومن ثم فخبره فيه شرط: يكون كذا إن خالفتم التذكير الأخير.
فيكون مكذب الرسول ليس كلامي بل من غفلوا عن الشرط. ومعنى ذلك أن الفتنة الكبرى ما كانت لتحصل رغم أن الرسول أخبر بحصولها لو عمل المسلمون بما جاء في التذكير الاخير. وإذن فكل خبر أخبر به الرسول معناه أنه خبر مشروط بسلوك المسلمين الذي أوصى به القرآن.
فلا يكون معيار تصحيح الحديث المطابقة بين القرآن والحديث بل المطابقة بين العمل بالقرآن واخبار الحديث. إذا عمل المسلمون بالقرآن حققوا الشرط الذي يجعل حديث الرسول تحذيرا ضميره سيكون كذا إذا لم تعملوا بما أوصاكم به القرآن الكريم من شروط الاستعمار والاستخلاف.
لا شك عندي أن الكثير من أصحاب كاريكاتور التأصيل قد يذهب إلى اعتباري بهذا قد مرقت. وقد سبقهم إلى ذلك المرحوم البوطي عندم حاورته في مسألة أزمة أصول الفقه. عدم قدرته على فهم ما عرضته لاعتقاده أن أصول الفقه يكفي فيه معرفة قوانين العربية. ومنها المقابلة الفجة بين الخبر والإنشاء.