إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – القسم الثاني – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

القسم الثاني/الفصل الخامس

والآن وقد فرغت من بيان أثر الفتنتين على الإسلام أو السنة وموقف رد الفعل والانكماش الذي يغلق الانفتاح القرآني على كل جهد انساني لتحقيق شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها علما وعملا على علم والاكتفاء بتشويه المرجعية ومطالبتها بعكس حقيقتها فلنبدأ في الكلام على العلوم المساعدة.

فإذا كان القرآن يعرف الإنسان بمهمتيه اللتين هما عين كيانه -الاستعمار في الأرض لامتحان اهليته للاستخلاف-وكان الله قد جهزه بما يحقق به هذين الدورين فكيف لأمة أن تنجح إذا هي كما قال ابن خلدون قتلتهما في أبنائها منذ نعومة أظافرهم في تربيتهم ثم في حكمهم كهولا وشيوخا بتحريف المرجعية؟

ولما كنت المرجعية تصف نفسها بكونها التذكير الأخير والرسالة الخاتمة فلا يد أن يتحقق فيها شرطان:

  1. فالأخير ينبغي ألا يبقي لما بعد ممكن ومن ثم فينبغي أن يكون الأتم في جنسه.

  2. والخاتم إذا لم يكن خاتما للحياة وكانت الحياة دائمة التطور فلا بد أن يتضمن شروط هذا التطور مقوما لمضمون رسالته.

لذلك فلا بد أن يكون هم الرسالة منصبا على العلاقة بين المرسل (الله) والمرسل إليه (الإنسان) وأن تكون هذه العلاقة المباشرة هي عين التلازم بين الذاتين الحريتين المستخلفة والمستخلفة وأن يكون كل منهم يفهم لغة الثاني: والمشكل: كيف يمكن للإنسان أن يفهم لغة الله إن سلمنا بأن الله يفعل.

وهنا أريد أن أضع فرضيتي الاساسية في تحديد مفهوم المتشابه: من يقرأ القرآن يفهم قصده في كلامه على ذاته بأنه كله متشابه. ومن ثم فلا بد من فهم العلاقة بين كله متشابه وبعضه متشابه. دلالة العلاقة بين التشابهين هي المحيرة لذي العقل فضلا عن الباحثين عن “البوز” من دجالي الحداثيين.

ولا أريد أن أعلق على أحد ممن يتكلمون في الدين في تلفزات تونس ومصر وبدأ يلحق بهم بعض المغفلين ممن يسمون أنفسهم ليبراليين وعلمانيين في المعقل الاخير للمحافظة على بعض “الثوابت” في ثقافة المسلمين حتى وإن غلب عليها الفلكلور أكثر من القيم السامية التي يعرف بها الإسلام.

وكثير ما يقال عن الحماقة أنها لا علاج لها. لكني اعتقد أن الأمر لا يتعلق بالحماقة بل بعمى البصيرة. فلو كانت الأديان كلها متماثلة لكانت مراحل المعرفة الإنسانية كلها متماثلة. ألسنا نميز في المعرفة الإنسانية كاسترماز لموضوعاتها بين ما هو علمي وما هو ليس بعلمي بمعايير شبه اجتماعية؟

إني أزعم افتراضا واعتقادا أن أهم خاصية في القرآن الكريم أنه النص الديني الوحيد على حد علمي وقد درست الكثير من النصوص الدينية الوحيد الذي يميز بين الاديان التاريخية والديني فيها من حيث هو ديني ويعتبره واحدا لكل البشرية فيحرره من العرقيات والثقافيات والتاريخيات ويعتبره فطريا.

كما أنه لا يكتفي بذلك بل يعتبر أن تعدد الأديان بسبب ما تختلف به بعضها عن البعض من شروط التسابق في الخيرات للوصول إلى الديني فيها محررا مما يحول دون الإنسان وفهم منزلته الوجودية التي هي عين الديني والوعي الإنساني بهذا الديني في الأديان أعني ما في كيانه من العلاقتين المقومتين.

ثم هو قد أمد الإنسان بمعايير امتحان آخر تذكير: لم يفرضه عليه بل قدمه له وقال له إذا أنت أردت أن تتبين حقيقتي فانظر فيما سيريكه الله من آياته في الآفاق وفي نفسك. لم يقل له خذ وصدق واقفل فاك. ما هذا؟

هل يمكن لمن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مطلقة ثم يضع رسالة للامتحان؟

تلك هي معجزة القرآن الكريم. ليس القرآن مدونة علمية في أي من علوم الملة بل هو تذكير بما يترتب على هذه الصفات من سلوك يحقق شروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف إذا استعمل الإنسان ما جهز به من أدوات فعل أهمها العلم والعمل على علم في العلاقة بالعالم وفي العلاقة بين الناس.

والأهم في الروحي ليس مجرد وعي العضوي بذاته وهو معنى قولي “أنا” بل الوعي بما يحيط به وبما ورائه أي بالآفاق الطبيعية والتاريخية وما ورائهما مما يجعلهما ما هما ويجعل علاقتهما بالإنسان هي ما هي بحيث إن الإنسان من دونهما لا يمكن لمقومي كيانه أن يتحققا وخاصة ما يتطلب علمه وعمله على علم.

بهذا المعنى فالقرآن يضع نفسه تحت الاختبار العلمي دون أن يكون علميا بل هو شرط كل علم: فهو لا يعطيك مضمونا علميا بل يعطيك الموقف العلمي الذي يجعلك بنفسك تصل إلى المضمون العلمي الذي من دون لن تكون سيدا لا على نفسك ولا على محيطك ولا خاصة على تجاوزهما فيحررك من كل سلطان لا ينبع منك.

يعتبرك مسؤولا كفرد وحرا من الوسيط (علاقة مباشرة بربك) ومن كل وصي (علاقة مباشرة بأمرك) ويذهب إلى حد اعتبارك حرا في أن تؤمن به أو تكفر ويعتبر حرية ضميرك رهن تبينك بنفسك للرشد من الغي وليس ذلك في مجال العقائد فحسب بل وكذلك في مجال تبين حقيقة الرسالة باختبار المباشر بغير المباشر.

لكن العلاقة المباشرة فرضية والعلاقة غير المباشرة امتحان تجريبي لهذه الفرضية ولا تصبح الفرضية مقبولة عن قناعة إلا إذا أيدتها التجربة. ولهذه العلة كان الرسول الخاتم كلما عاجزه أحد ممن تعودوا على الأديان السابقة وخاصة على الإسرائيليات رد بأن المعجزات للتخويف وليس لإقناع الأحرار.

ما أسميه إعادة البناء لشروط الاستئناف (الاستعمار في الارض والاستخلاف الذي توقف بسبب القوانين الاستثنائية في المعرفة والسياسة) لا يتوجه إلا إلى من تحرر من هذه المعيقات التي جعلت الأمة تنكمش فتصبح عقيما لا تبدع هذه والشروط ولما يبدعها غيرها يزعم دجالوها أنها موجودة في النص.

ولا يدرون ضرر ذلك. فهو أولا كذب على القرآن وهو ثانيا قبول بعدم القيام بالجهد الذي طلبه القرآن نفسه أمرا والبقاء في التخريف الذي نهى عن بدلا من شحذ الأذهان لإبداع ما به يتقوم وجود الإنسان بدلا من كسل المستهلكين الذين سماهم ابن خلدون عالة على غيرهم لفساد معاني الإنسانية فيهم.

والآن فلأخصص كلمات وجيزة لما كان يمكن أن يكون لمَ لمْ تصب الأمة في مقتل بحكم توظيف اعدائها لما هو شرط البقاء ليكون مجرد أداة يحاربونها به وبدلا من تعلمه اعتبره هو بدوه عدوا فقلوه ولم يهتموا به بل اعتبروه هو نفسه عدوا للدين: الفلسفة وعلومها. والأعداء في الفتنتين لم يتجاوزوا أدلجتها.

فأقصى ما أنتجته الفتنة الكبرى هو الباطنية وتخريفات اخوان الصفا ودحل الملالي. وأقصى ما انتجته إيديولوجيا الفتنة الصغرى هو الحداثوية القشرية وتخريفات أدعياء النقد الديني بدل التمكن الحقيقي من العلوم المساعدة أو العلوم الأداة: فليذكر لي أحد اسم عربي واحد أبدع شيئا يعتد به فيها.

لما اقرأ من يدعون نقد الأديان من العرب مشارقة ومغاربة-وجلهم من دارسي الآداب العربية-لا يتجاوز التقريب الجمهوري الذي غالب ما يرجع إليه من مراجع ومصادر ليس فيه لصاحب النقد غير ذكر الإسلام ولست واثقا من أنه فعلا قرا المصدر فضلا عن أن يكون قد فهمه.

فأول علم مساعد هو علوم اللسان. وهي أهم علم آلة في فهم النصوص الدينية. ألم تكن الأمة متعددة الأقوام واللغات؟ فلم لم نجد دراسات مقارنة بين اللغات التي هي شرط فهم أن نحو أي لغة ليس علما بل هو مجرد فن لتعليم تلك اللغة وأن العلم يبدأ عندما ندرس اللساني بما هو لساني؟

والعلم المساعد الثاني هو التاريخ. والحمد لله فالخطوة الاولى كانت لعلامتنا ابن خلدون. ولهذه العلة أكثر من الإشارة اليه ولا يعني ذلك أني أعتبر كلامه قولا فصلا. فلا أحد من البشر قوله فاصل. وإنما أعني انه طلب شروط نقد علم التاريخ من حيث هو تاريخ ولم يكتف بتدوين تاريخ بعينه.

وثالث العلوم المساعدة هو الرياضيات. وهنا لا بد من إشارة مضاعفة. فأولا كل من درس فلاسفة العرب يجد أنه بعد الكندي والفارابي لا يوجد فيلسوف عربي واحد له الزاد الرياضي المحترم بحيث إن منحنى العلم في الفنون الفلسفية بعدهما كان متنازلا وليس متصاعدا. الكندي أفضلهم وبعده الفارابي.

ولذلك فالعلماء في الرياضيات لم يكونوا من الفلاسفة بل كانوا صنف ثالث بين علماء الدين والفلاسفة وهم فعلا قد أبلوا البلاء الحسن. وعندي أن من يمكن أن يعتبر قد تجاوز الرياضيات التقنيات إلى محاولة التفكير فيها وفهم آليات عملها الاسترمازية هو حفيد ابن قرة في كتابه عن التحليل الرياضي.

ومشكلي ليس ما حققه المسلمون في العلوم بل كون هذا التحقيق عصاميا أولا ولم يدخل في المنظومة التعليمية العامة التي كانت أشبه بما كانت عليه جامعاتنا في لحظة هجوم الاستعمار علينا وهو أمر لم يغفله ابن خلدون عندما قارن بين العدوتين الشمالية والجنوبية للأبيض المتوسط في عصره.

وأختم هذه المحاولة بالمسألتين الاخيرتين: المنطق وأصل كل العلوم المساعدة أو نظرية المعرفة والابستمولوجيا في علاقتها بالأنطولوجيا (نظرية المعرفة في علاقتها بنظرية الوجود). وهنا أجدني مضطرا لنفس الجناية التي أحاكم عليها من بعض “المفكرين” ممن ابن تيمية سلوك من ليسوا أكثر منهم بلادة.

قرأت مرة لأحد المغاربة تحول إلى بوق ملالي -رأيته مرة في دمشق بزي الملالي يتذلل لأسياده-حاول بيان ثقافته المنطقية متوهما أني اهتم كثيرا بالاعتراضات على شروط التصور والتصديق والحد إلخ… مما لا يخلو منه كلام سابق على ابن تيمية. لو كان هذا هو المشكل لكن كل غبي مثله فيلسوفا.

لم يكن مشكل ابن تيمية شروط التصور ولا التصديق ولا الحد ولا البرهان ما كان الأمر متعلقا بالمقدرات الذهنية. مشكله هو ما وراء المنطق ليكون علما مساعدا يمكن من “استرماز” الوجود الخارجي. مشكلة هل التحليلات الأواخر وليس التحليلات الأوائل ومن ثم فهو نظرية المعرفة وأنطولوجيا المنطق.

ولهذه العلة اعتبره الوحيد الذي تجاوز فلسفة النظر اليونانية كلها بمحرد أن تساءل عن هذه العلاقة بين انطولوجيا المنطقي ونظرية المعرفة ومن أنهى خرافة المطابقة. وهو بهذا المعنى مؤسس فلسفة حديثة في النظر تأسيس ابن خلدون فلسفة حديثة في العمل. وقد حاولت بيان ذلك في غير موضع.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي