إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – القسم الثاني – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

القسم الثاني/الفصل الثالث

عندما اعتبرت العلم يؤخذ غلابا مما يسمونه نصا وأسميه التراث في المجال ومما يسمونه الواقع أسميه مركز التلاشي في الرسم (شرطا في البارسباكتيف) فالقصد في النهاية أنه يؤخذ غلابا من ذات الباحث: فلكأن الباحث مضطر لنزع ثيابه حتى يستحم في محيط الحقيقة التي تجبره على الشك فيما لديه.

ولست أتكلم على الشك المنهجي سواء بمعناه عند الغزالي في المسائل الروحية (طلب اليقين لتأسيس المعرفة الدينية) أو عند ديكارت في المسائل الابستمولوجية (طلب اليقين لتأسيس المعرفة الفلسفية) والمعنيان يلتقيان إذا حررناهما من الأساليب الثقافية بل هو نوع آخر من الشك.

فهو ليس شك للتأسيس ولا شك للبدء في العلم بل هو شك ذو توجهين: ويشبه ما يحصل لمن يمشي في الادغال فيضطر للالتفات إلى ما ورائه وما قدامه وما على يمينه وما على شماله وحتى ما فوق رأسه وما تحت قدميه لأنه بخلاف ما يتصور الكثير فأي اختصاص غابة بكر في عين الباحث كلها رمل متحرك.

فما ان تلمس قطعة من الرقعة (كالشطرنج) حتى تتغير دلالات كل القطع الاخرى في مجرى اللعبة الاسترمازية طبعا بالنسبة إلى الباحث وليس إلى من يأخذ الاختصاص كفن تعلمه ويعلمه وكأنه متن جاهز وثابت ولا شيء فيه يتحرك ويكفي فيه الحفظ وقوة الذاكرة لاستعراض مضمون المتن المشترك.

وهذه العلاقة الاولي بالاختصاص العلمي شرط ضروري والحاصل عليه هو “العالم” بمعنى السكولار اي المطلع على التراث في ذلك العلم إلى آخر لحظة في تكوينيته أو ما هو سائد في حاضره: ويمكن أن نسميها حال الفن وهي حال يشترك فيها أهل ذلك الاختصاص. وهذا هو الالتفات الاول. فما الالتفات الثاني؟

هذا هو الالتفات الثاني الذي يمكن أن أمثل له بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون. فالغزالي في التهافت غير الغزالي في المنقذ. التفاته في التهافت ليس التفات التأسيس أو البداية في المعرفة كما في المنقذ بل هو التفات المتسائل من داخل الاختصاص الذي اسمه الميتافيزيقا ونظرية المعرفة.

ورغم أن شك التهافت غير شك المنقذ فإن بينهما علاقة لأن مطلوب الثاني هو علة مطلوب الاول رغم الترتيب الزماني العكسي في حياة الغزالي في الظاهر لأني اعتقد أن الغاية هي مطلوب الثاني من البداية وإلا لما هدأت نفسه من دون أن يذهب إلى وضع البديل الفلسفي: حل المنقذ كفاه فمال الى التصوف.

وهو حل “كسول” يمكن أن يطمئن النفس فيسكن آلامها الروحية لكنه لا يسهم في الحل الذي يحررها من الخضوع لمعيقات الروح الدنيوية بمجرد الاستسلام لها أو الهروب منها: فالاستعمار في الأرض لا يكفي فيه الاستسلام لضروراتها التي تجعل الجماعة عابدة لحاجاتها أكثر من عبادة ربها.

والنتيجة أن هذا الهروب الوهمي يؤدي إلى العودة إلى القبول بما كان الشك فيه في التهافت بداية إلى التحرر منه: ومعنى ذلك أن الغزالي حرك رواكد الميتافيزيقا في التهافت ثم سكنها في المنقذ وعاد إلى رواكد الميتافيزيقا السينوية وتبناها فلم يحصل بعمله تقدما يذكر في إعادة بناء الفلسفة.

ولأمر إلى ابن خلدون لأن الكلام في ابن تيمية وتجربته الجنيسة أعسر على الإفهام ولا أريد أن أخوض فيها بعد أن خصصت لها الكثير من المحاولات التي جرأت علي الكثير من أنصاف المثقفين الذين يتصورون الحملة عليه لأسباب معلومة يمكن أن تردعني عن قول ما أراه حقا في شأنه.

لو كنت أخشى أحدا غير الله ما خصصت له نصف رسالتي الجامعية في بلد الكل يعلم أنه علماني وأن الكلام على مثله يعد شبه جريمة خاصة في نخبة تدعي اليساروية والتقدمية ويعتبرونه ومثله الغزالي ممثلا للظلامية والتخلف والوهابية إلخ.. من كلام الاميين في تاريخ الفكر الإسلامي خاصة والإنساني عامة.

ما من أحد يدعي التخصص في ابن خلدون لا يعلم أن ثورته علتها هذين الشرطين: التخصص والشعور بالرمل المتحرك فيه. لكن ما لا يعلمه الكثير من المختصين الذين لا يهتمون بابن خلدون لذات عمله بل لأنهم وجدوا فيها شبها بمن يبنون عليه نظرية السبق من منطلق عقدة النقص: قيمته في شبهه بأحد.

لا يعنيهم من ابن خلدون إلا ما فيه من كونت أو من ماركس أو حتى من هيجل.  أما علمه في ذاته فقل من حاول الولوج إليه لبيان دلالة الالتفات الثانية التي أنسبها إليها والتي جمعت بين الغزالي وابن تيمية فلا تفهم من دون حصيلة ثورتيهما على رواكد المعرفة السائدة في علومنا بصنفيها.

لو كان التفات ابن خلدون مقصورا على التاريخ وإصلاح الكتابة التاريخية لاستحال عليه أن يكتشف علم العمران البشري والاجتماع الإنساني ولكان أقصى ما يصل إليه جنيس ما وصل إليه علماء الحديث أي التثبت من صدق الوثيقة-وهي عندهم الرواة-وتقاطع الوثائق دون تواطؤ من أصحابها وهذا كاف للتاريخ.

لو لم يكن ابن خلدون قد التفت في مجال آخر كان ينفي قابلية التاريخ لأن يكون علما بمقتضى طبيعة موضوعه لما حصلت ثورته فيجعل شروط علميته موضع سؤاله أو مطلوب بحثه الذي سيؤدي إلى تغيير الفلسفة كلها وليس مجرد كتابة التاريخ. وهذا لا يكفي البحث عن السبق قياسا إلى كونت او ماركس إلخ..

ولا يكفي فيه خاصة كلام بعض الحمقى الذين يقولون: ابن خلدون يفهم في عصره وكلامه لم يعد مفيدا لأنه ابن عصره. ولو كان ابن عصره لكان مثل مؤرخي عصره ولما أبدع ثورة تغير الابستمولوجيا الفلسفية التي كانت تستثني التاريخ من الأرشيتاكتونيك الفلسفية استثناء مبدئيا بنظرية المعرفة وموضوعها.

فمجرد قوله في فاتحة المقدمة-خطبة الكتاب-أن التاريخ كان جنسا أدبيا وينبغي أن يصبح جنسا فلسفيا مجرد هذا القول يعني أن الثورة التي يدعو إليها تبدو في الظاهر ثورة في علم التاريخ لكنها في الحقيقة هي ثورة في نظرية المعرفة الفلسفية: كيف يمكن أن يصبح التاريخ من الارشيتاكتونيك الفلسفية.

وهذا هو قصدي بأن تحريك قطعة من رقعة الشطرنج المعرفية في أي اختصاص تغير دلالة دور القطع الاخرى في اللعبة. ففيها قد يصبح أحد البيادق أهم من الرخ أو من حتى من الوزير بحسب الحال التي وصلت اليها اللعبة هجوما او دفاعا. جملة ابن خلدون رد صريح على جملة لأرسطو في كتاب الشعر.

ولا يهمني كثيرا إن كان ابن خلدون واعيا بذلك أم لا وليس بالضرورة أن يفعل المبدع ما هو به واع. المهم أن ما فعله غير ما كان في تاريخ المعرفة حائلا دون فعله فيكون فعله وكأنه كسر لقفل يعوق علاج مسألة ابستمولوجية لم يكن يتصورها فكر عصره ممكنة: تلك هي الالتفاتة التي انتجت علم العمران.

لكن إنتاج علم العمران لم يكن مجرد تحديد لموضوع التاريخ أو للظاهرات التي يؤرخ لها المؤرخ لئلا يبقى التاريخ رهن الاسر الحاكمة والحروب بين الدول بل كل الظاهرات التي يتألف منها وجود الجماعات البشرية بوصفها ما ينتج عن علاقاتها فيما بينها وعن علاقاتها مع العالم: كل منتجاتها الحضارية.

وبذلك تحدث الثورة الاهم وهي أن العلم الرئيس لم يعد الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) بل أصبح الميتاتاريخ (ما بعد التاريخ) وهي ثورة قلبت بنية المعرفة الإنسانية كلها رأسا على عقب: ما بعد الطبيعة هو نفسه ظاهرة اجتماعية ومن ثم فهو يفهم بما بعد التاريخ. ويكفي قراءة باب المقدمة الاول.

فالجغرافيا التي هي ظاهرة طبيعية تبدو هي البداية. لكن سرعان ما يأتي نظيرها الاسترمازي في القسم الثاني من الباب الاول ليجعلها في المرتبة الثانية لأن تشوف الإنسان للمستقبل والاستعداد لمفاجآتها هو الاسترماز الأسطوري والديني الذي يحولها إلى محل قيام إنساني دلالته من هذا التشوف.

حرثت المقدمة ألف مرة وما هدأت حتى اكتشفت هذا السر الخلدوني الذي جعله عندي مؤسس العلوم الإنسانية وقالب العلاقة بين الطبيعي والتاريخي ومن ثم مؤسس ما بعد التاريخ علما رئيسا بديلا مما بعد الطبيعة التي هي من مبدعات تثبيت الوجود لتسكين حيرة الإنسان في علاقته بمحيطه “الطبيعي”.

والنتيجة هي أن ثورة ابن خلدون تكاد تقول “لا شيء طبيعي في الطبيعي المحيط بالإنسان” إنه تطبيعي وليس طبيعيا. والتطبيعي في علاقتنا بالطبيعي هو ما سميته الاسترماز. وهو ما سماه القرآن الكريم “علمه الأسماء كلها” أو “علمه البيان”. وإذن فالتاريخي متقدم على الطبيعي الذي هو رؤية تاريخية.

لكن حذار فالرؤية التاريخية ليست تاريخانية: القصد ليس الصيرورة المنفلتة التي تلغي ما يطلبه العلم أعني القوانين والسنن بل الصيرورة ذات النظام المستمد من قطبي المعادلة الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ علاقة غير مباشرة تنتظم في ضوء العلاقة المباشرة التي تواصل استرمازي.

الله -أو أي قوة غير محددة الطبيعة-تخاطب الإنسان بآيات أو رموز يؤولها الإنسان برموز أو أسماء هي التي بها ينظم عالمه الطبيعي والتاريخي بدءا بالتمييز بين الطبيعي (الضرورة) والتاريخي (الحرية) وختما بتحديد التراتب بينهما: ابن خلدون قلب التراتب بين ما بعد الطبيعي وما بعد التاريخي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي