لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الثاني/الفصل الأول
كان كلامي في المجموعة السابقة مقصورا على البدائل من العلوم الزائفة لكني لم استوف الكلام على شروط الاستئناف بنوعيها للاستعمار في الارض وللاستخلاف. أو بصورة أدق ما نتج عن زيف علوم الملة من قتل شبه نسقي لعلوم الآلة وتطبيقاتها وللمبدعات المعبرة عن الذوق الطبيعي والذوق الوجودي.
ويجمع بين هذين النوعين من الإبداع غاية الاسترماز أو ما يرفع الإنسان إلى ذروة الفاعلية المادية في إدراك الطبائع والشرائع بفضل العلوم المساعدة أو علوم الآلة وتطبيقاتها ويرفعه إلى ذروة الذائقية الوجودية بفضل الإبداعات الفنية الجمالية التي هي معالم العبادة الروحية في كل حضارة.
فيمكن القول إننا لم نتجاوز الحد الأدنى من العلوم المساعدة وتطبيقاتها التقنية لاسترماز الطبائع والشرائع الذي هو جوهر المعرفة النظرية جعلها لا تكاد تتجاوز ما ورثناه عن اليونان من البصريات وتطبيقاتها في الفلك مثلا حتى وإن لم ينفي أحد أننا قد جودنا الكثير منها.
لكن ما ينبغي الاعتراف به هو أن سيطرة العلوم الزائفة التي حاولنا النظر في طبيعة زيفها ونتائج سلطانها هي التي صحرت الذائقة إلى حد كاد يلغي دور الفنون الجميلة في حياة الامة. ذلك أن زخرفة قصور الملوك أو المساجد وإن انتسبت إلى الفن فهي موروث اقليمي أضافتنا فيه ليست بعمق ثورة الإسلام.
وأعجب أمر يحيرني هو أن حتى الحداثيين عندما يتكلمون عن الفنانات والراقصات تجدهم يكررون تقريبا ما يقوله الفقهاء الذين سلطهم الجهل على كل ذوق يعبر عن روح الإسلام لكأنهم قرروا اخلاء حضارته من كل ذوق لتكون صحراء لا يرى الإنسان تضاريس الوجود وأمواجه الهادرة في الوجدان.
لا يرون أن غلبة الانحطاط وحتى التدني الخلقي الذي يصلونه بأهل الفن ليس خاصية ذاتية للفن والفنانين بل لهذا الموقف الذي يجعلهم وكأنهم من المنبوذين خلقيا ولكأن الفن من حيث هو تعبير عن الذوق التواصلي معاد للأخلاق من حيث تعبير عن الذوق التساكني بين ما يتجاوز الأبدان إلى الاذهان.
ولهذا كان جل الفنانين من الاجانب أو من اليهود وحتى الشعر فإن تحوله إلى تكد جعله يصبح أبعد ما يمكن أن يتعاطاه ذو وعي بمنزلة كريمة وشريفة كما يقول ابن خلدون: يعني حتى أسمى فنون العرب دنس فصار بضاعة متسولين وهو معنى الكدية. والعلة هي حاجة مرضى الحكام للمدح بما لم يعملوا.
فمن يعمل غني عن المدح إذ لا أمدح من الأعمال للنساء والرجال وللحضارات والأجيال: فآثار الفعل ومعامله هي المدح الوحيد الذي يعتد به عند من يؤمن بأن الإنسان لا يقاس إلا بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في اجتهاد الاسترمازي وجهاده التحقيقي.
ويمكن اعتبار هذه المجموعة الثانية جزءا ثانيا من المجموعة السابقة في “إعادة البناء: لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف”. وتليها مجموعة ثالثة في المؤسسات السياسية ومجموعة رابعة في المؤسسات التربوية لتكون المجموعة الاخيرة في المؤسسات الاجتماعية وهي حصيلة ذلك كله واصله في آن.
وسأبدأ بالكلام على العلوم المساعدة (في علوم الملة التقليدية يسمونها علوم الآلة) وهي تسمى مساعدة لأنها هي أدوات الاسترماز كنظريات للصوغ والمنهج العلمي أولا وكتطبيقات للنظريات لامتحان النظريات بأدوات تقوية الحواس (البصر للرؤية في البصريات والسمع للسبر عن طريق الموجات الصوتية).
فأدوات رؤية البعيد والدقيق وسمع الأمواج كلاهما من معدات فاعلية الإدراكين الذي يعتمد عليهما التجريب شرط اختبار النظريات التي تصوغ معطيات الوجود الخارجي وهي بالضرورة نقلية عن الوجود بتوسط الحواس التي يهدي إدراكها الفرض العلمي ويؤيده أو يكذبه الإدراك الحسي بفضلها.
وهي بصنفيها كأدوات تنظير وكـأدوات تجريب أدوات استرماز بمعنى الصوغ الرمزي لما لنا من معلومات حول الطبيعية والتاريخ كنظرية فرضية قد تصبح حقيقة مؤقتة لأن تجويد الأدوات قد يتجاوزها فيغيرها كما يحدث في كل تغير كيفي في النظريات العلمية التي هي دائما “قوانين” مؤقتة: سر تقدمها مؤقتيتها.
وذلك هو الدليل الأتم على فساد نظرية المعرفة المطابقة. فلو كان علمنا مطابقا لموضوعه لاستحال تغير النظريات العلمية. فالحقيقة إذا كانت حقيقة مطلقة فهي لا تتغير. وتلك هي علة رفضي الأساسية لخرافة الاعجاز العلمي في القرآن. العلم متغير. اعتباره مدونة علوم يؤرخنه: وهو فوق التاريخ.
القرآن في حد ذاته معجزة لكنه ليس معجزة بالأعجاز العلمي ولا بالإعجاز البلاغي ولا بالإعجاز التشريعي بل بكونه تذكيرا للإنسانية بمقومات كيانها الطبيعي والتاريخي أو المادي والروحي بحيث إن كل إنسان ما كان إنسانا سيجد فيه جوهر كيانه ونسغ وجدانه إذا هو تدبر علاجه لمعضلات الوجود.
ويمكن أن نميز في العلوم المساعدة نوعين أحدهما يغلب على الفنون الدينية والثانية على الفنون الفلسفية مع تقاطع أو تشارك بين الفنين في استعمال النوعين: علوم اللسان والتاريخ يغلبنا على النوع الاول وعلوم الرياضيات والمنطق يغلبان على النوع الثاني.
والتطبيقات التي تعطى مدى أدبر للحواس في المكان (البصر والسمع) تطبيقات رياضية فيزيائية (مثل البصريات والصوتيات) وتطبيقات لسانية في الزمان رمزية (البصر والسمع) لحفظ التراث الماضي للحضارات التي كتبت كلامها حول ما درسته من ظاهرات تاريخية وحتى طبيعية.
ولولا العلوم المساعدة وتطيبقاتها لاستحال على الإنسان تجاوز مدى الحواس الطبيعي المكاني والزماني ولظل علمنا بالطبيعة والتاريخ محدودا بمحدودية الحواس على الاقل ما تحققه التجربة من أثبات أو نفي لفرضياتنا العلمية. وهذا هو الميدان فإن دورنا لم يكن في المستوى المناسب لوزن حضارتنا.
صحيح أنه في العصر الذي سادت في حضارتنا إذا قيس بأوروبا كان متقدما جدا. لكن ذلك يصح على أوروبا ولا يصح على اليونان مثلا. وهما بالغنا في إضافتنا وهي ليست بما يستهان به فإنها لم تكن بالقدر المنتظر من امبراطورية سيطرت على كل العالم المتحضر في عصرها طيلة ستة قرون على الاقل.
وكل من يفاخر الغرب من “علمائنا” الحاليين يتجاهلون أن محدودية هذا الدور على أهميته سببها “علماؤنا” الذين حرفوا علوم الملة واعتبروا هذه العلوم الضرورية من العلوم التي لا تفيد وحتى إذا أفادت فهي مثل الخمر ضررها أكثر من نفعها فنقلوها بل واستثنيت من نظام التربية الرسمي.
ولهذه العلة كان كل علمائها والفلاسفة منهم عصاميين: أي إنهم تعلموا هذه العلوم خارج النظام الرسمي للتعليم الذي كان همه منصبا على ما سماه الغزالي علوم الدين التي ماتت هي بدورها وإلا لما كتب في إعيائها. وهي ماتت بمعنى أنها لم تؤد وظيفتها وكان ذلك لزاما لأنها استدارت بظهرها لها.
ولا يمكننا أن نتدارك ما فات إلا بالاعتراف والتخلي النهائي عن الفخر الزائف الذي يغني عن اكتشاف الخلل: لا يمكن أن نكون قد تخلفنا بالصدفة. فساد نظام التربية وطبعا فساد نظام الحكم وما سميته حالة الطوارئ في السياسة (حكما وتربية) وفي المعرفة نظرا وتطبيقا هما العلة ولا يوجد سواها.
ولا يزال العرب على هذه الحال: فلا علموا شروط الحجم الحيزي (الجغرافيا وثمرتها المادية والتاريخ وثمرته الرمزية وأصلها جميعا أو نظام الرؤى التي تجعل الامة قيمة على شروط بقائها) ولا علموا وظيفتي الدولة: الحماية والرعاية الذاتيتين: لذلك فدولهم محميات ذرية وسيادتهم قطعة جبن للفئران.
ألا يحق لي حينئذ أن اقول ما قاله ابن خلدون قبلي: الامة فسدت فيها معاني الإنسانية فصارت عالة على غيرها في شروط عيشها حماية ورعاية ومن ثم فهي أمة عبيد وليس أمة أحرار وهم عبيد لمن يحميهم ويرعاهم. وكل من لا يحمي نفسه ولا يرعاها لا يعبد الله بل يعبد إنسان يحميه ويرعاه.
لذلك فما يسمونه دولا عربية أشبه بالمرأة التي لا شرف لها وتتصور أنها يمكن أن تجد فسحة حرية إذا عددت الحماة والرعاة فتتصور نفسها في موضع المرأة المطلوبة والتي تتدلل على المتغزلين بها ولا تدري أنهم جميعا يستحيون حرمتها ويستبيحون شرف أمتها ولا يحمونها ولا يرعونها إلا لحاجة مؤقتة.