إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – القسم الثالث – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

القسم الثالث/الفصل الخامس

الفصل الأخير من الكلام على المؤسسات السياسية أخصصه لأصل كل العلل التي تفسر الفشل السياسي في كل بلاد العرب: امتناع شروط الطموح الذي يمكن يجعل الشباب بجنسيه ينخرط في مشروع من البداية محكوم عليه بالفشل. فلا يمكن لمن كانت نشأة تاريخه كونيه أن يقبل بقيام تابع لأي إنسان آخر.

وما لم يفهمه الاغبياء المتعجبون من الفشل تلو الفشل في المحميات العربية هو أنهم ينفخون في “مزود” كله ثقوب. لم يعد الشباب غافلا لا عن منطق العصر ولا عن منطق تاريخ امته كله. فمنطق تاريخ امته بدأ بالدور العالمي ومنطق العصر أن السيادة شرط المواطنة الحرة لها شرطان يقتضيان الحجم.

فلا مواطنة من دون دولة سيدة ولا دولة سيدة من دون شرطين: القدرة على حماية الذات وعلى رعايتها. وهذان الشرطان ممتنعان على بلد يعيش بالصدقات ويحتمي بالأعداء. والشباب بجنسيه يعلم ذلك علم اليقين. وما يراه من كرنفال السياسة-رئيس دولة ورئيس حكومة ووزراء إلخ.. من المسكاراد-قناع للتبعية.

لا يوجد شاب من الاقليم-دون تمييز بين القوميات في شعوب الاقليم متحد الثقافة والمصير في ملتقى القارات الثلاث والتسمية بالإقليم أفضل من التسمية بالإثنية-يقبل بعدم المشروع الطموح لمستقبل غير تابع للمستعمر يمكنه من استعادة كرامته وحريته والتعامل الندي مع الضفة الشمالية من المتوسط.

لكن أجيال الذل الذين اختارهم الاستعمار لينوبوه في مستعمراته بعد انسحابه الشكلي هم الذي يريدون مواصلة الوضع السابق وتعميق التبعية الثقافية والاقتصادية والسياسة ورهن الاوطان مقابل بقائهم في وهم السلطان الذي يمكنهم من استعباد الشعوب وسلب حقوقهم في الحرية والكرامة وأفشال ثورتهم.

وما يصح على المغرب من المغرب إلى ليبيا يصح على المشرق منها الى العراق: كل بلادنا خاضعة لسياسة اليوم بيومه لا مشروع لها إلا بقاء خدم الاستعمار غير المباشر بوصفهم حماة الحدود الحديدية التي وضعها يجعل التنمية الاقتصادية والعلمية مستحيلة فيضمن بقاءنا تابعين إلى يوم الدين.

فالأجداد الذين بدأوا المقاومة متحدين وبشروا بوحدة بلاد المغرب الإسلامي عمل الاستعمار كل ما يستطيع لإبعادهم وترك من اخترقهم به حتى يحققوا له ما عجز عنه طيلة استعماره المباشر من قتل فرض لغته وتفتيت اللحمة الثقافية وخلق العداوات بين الاجوار ومنع كل تغيير ينبع من الشعب.

وما حصل في المغرب حصل في المجموعات الأربع الباقية وآخرتها الخليج الذي دبت فيه الفتنة فصار الجميع يتودد لصاحب الفتنة بينهم كل يريد إرضاءه بما يقدمه له من خدمات تغيض جاره وأخاه وتزيد الضغينة بينهم تماما كما يحدث في المغرب. والأمر بدأ بالاصطفاف مع قطبي العالم الماضي.

بدأ الاقتتال بين البعثين ثم بين الناصرية والبعثية ثم بين القذافية وكل الاجوار فصار كل حاكم بأمره من طراطير العرب مجرد ذراع فوضى في بقية الأقطار ما ينفقه في تأجيج العداوات بين العرب كان يمكن أن يضاهي مشروع مارشال الذي اخرج أوروبا من نكبة الحرب الثانية حتى وصلنا إلى الثورة المضادة.

ففتتوا العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر في الطريق ويسعون إلى تفتيت تونس وبعدها الجزائر التي بلغ بها الجمود مبلغا صرت أخشى من انفجارها الذي لا قدر لو حصل لكان نكبة على المغرب كله. وما بين الأقطار المنتسبة إلى الجامعة ليسوا إلا ورثة عاقين لمن ورثوا عنه هذا الوطن الكبير.

وفي خلال هذا التناحر الداخلي فقد العرب كل صديق لأنه إن وجد سرعان ما يعجز عن تحديد سياسية معهم مادام كل ما يفعله مع زيد يغضب عمرو والكل يهدد ببعض المليمات التي يبقيها فساده من بين زيت الحجر وبعر البقر. هل هؤلاء أحفاد من أسس دولة الإسلام الكونية؟ صدق المتنبي.

فأنت إما أمام شيوخ خرفون بلغوا أرذل العمر أو أغرار لا خبرة لهم ولا ثقافة والاول منهما همه أن ينهي حياته بلا مشاكل والثاني يبدأها بما يمليه عليه طموح الأغرار الذين يتصورون سدة الحكم لعبة فتكون الامة بين يأس العجزة عضويا والعجزة عقليا وتكون الأمة بين أجيال كسيحة وأجيال فضيحة.

ففي تونس مثلا آل الثورة إلى مآل صارت بداية ما يسمى بالانتقال الديموقراطي من جنس نهاية ما يسمى بالعهد البورقيبي. لا شيء يمكن أن يسمى دولة بل سياقة يومية لا تتجاوز أرنبة أنف السائق الذي يتعلم الحجامة في رؤوس اليتامى. وما يسمونه دولة يلتهم جل ثروة الجماعة في الخلاعة والرقاعة.

ففي شعب ثار ثلث طاقته العاملة عاطل عن العمل صراحة والثلث الثاني عاطل خفية لأنه زائد عن الحاجة في الإدارة وفي الشركات الوطنية والرعاية الاجتماعية لا يمكن الكلام على سياسة أصلا: إنها عملية تفقير نسقية للجماعة التي صار نصف اقتصادها خارج سلطان من “اختارتهم” لرعاية شأنها.

ونفس الامر يمكن أن يقال عن البلاد المغربية ذات الثروة البترولية. لذلك فمن الواجب القلق على المستقبل الذي ينتظر اقليمنا إذا لم نتدارك الامر فنعالجه بصورة تحقق شروط السيادة بجعل العمل المبدع والمنتج يصبح ممكنا عندما نوفر الحجم الضروري جغرافيا وتاريخيا على الأقل مثل اوروبا.

والآن فلو سألت أي شاب أو شابه عما يتمنى في علاقات البلاد العربية لكان جوابه يبدو مجرد حلم بمماثلة ما تحقق للشباب الأوروبي من حرية التنقل في كامل الوطن الكبير دون عوائق. لكنه هذا الأمر ليس ابدا مجرد محاكاة لما يحدث في أوروبا وإن كان فيه شيء منه لكنه حنين إلى ماض عاشه أجدادنا حقا.

الحدود الحديدية لم تكن موجودة حتى في عهد الاستعمار المباشر. إنها من النتائج الحزينة لما يسمى بالدولة الوطنية التي جعلت كل قطعة مجزوءة من الوطن تسمي نفسها دولة ويستبد بها عملاء لا معنى للوطن عندهم إلى كونه حديقة لمافيتهم يفعلون بها وبأهلها ما يرضيهم ويرضي من نصبهم غفراء فيها.

ولهذه العلة فالثورة أثبتت أن شعوب الاقليم ذات مصير واحد. عطسة تونس أصابت الجميع بالإنفلونزا الثورية لأن مطالب الأمة واحدة وهي تريد الخروج من الاستثناء عالميا منذ الحداثة ومن حالة الطوارئ إسلاميا منذ الفتنة الكبرى التي قتلت حداثنا السياسية بتعطيل دستور الجمهورية الديموقراطية.

فيكون الحل في بناء المؤسسات السياسية التي تجعل الأمر أمر الجماعة (جمهورية) وتجعل أسلوب إدارته شروى الجماعة (ديموقراطية) وتجعل الرزق ثمرة العلاقة العمودية بالطبيعة في خدمة الجماعة وصلا بين الاقتصادي والاجتماعي فيكون الحل جوهر ما يطلبه الإنسان الحر والكريم دينيا وفلسفيا.

وهذه المؤسسات رغم ما فيها عدم التحديد الدقيق سعى إليها فكر الامة متدرجا ويمكن اعتبار آخر اشكالها في الاحكام السلطانية قريبا جدا من التنظيم الجمهوري الديموقراطي في شكله الجنيني حتى في اوروبا: ففه هيئة انتخابية وفيه شروط الترشح وفيه التصويت بالمبايعة حتى وإن حرفت لأنها تفرض.

لكن الديموقراطية الغربية هي بدورها تدرجت فمن انتخاب الاغنياء فحسب إلى انتخاب الرجال فحسب إلى الانتخاب العام أخيرا مرت مراحل مديدة. ونفس الأمر كان ينبغي أن يتحقق في تطور المؤسسات السياسية الإسلامية لو لم يفسد نظام التعليم ونظام الحكم بما وصفنا من العلل.

لذلك فينبغي أن ننظر في المؤسسات التي كان لها الدور الكبير في توطيد هذا الفساد الناتج عن الاستبداد السياسي وأن نتخلص من الاحكام العامة التي تجعلنا وكأننا خارجون عن سنن التاريخ. ما حصل يقبل التفسير بما قدمته: حالة الطوارئ وكثرة الحروب الاهلية أدت إلى تعطيل الدستور. فلنستأنف.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي