لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الثالث/الفصل الأول
أنهينا المجموعة الثانية وبقيت ثلاث:
مجموعة ثالثة في المؤسسات السياسية.
ومجموعة رابعة في المؤسسات التربوية لتكون المجموعة الأخيرة.
في المؤسسات الاجتماعية وهي حصيلة ذلك كله واصله في آن. ذكرت بها حتى يعلم القارئ إلى أين نحن ذاهبون في إعادة البناء للاستئناف.
وهدا الترتيب ليس غفلا ولا عفويا بل هو مقصود: فالمؤسسات السياسية هي التي اعتبرناها أصل الداء في الفتنتين الكبرى التي أحياها من صارع الإسلام دائما بحلف صريح مع الأعداء والفتنة الصغرى التي يراد زرعها بنفس الحلف بينهم وبين من يحقق التخريب الداخلي في الإسلام من المنتسبين إليه.
وإذن ففيها نجد نتائج ما سبق أن درسناه في المجموعتين السابقتين وهي التي ينتج عنها بما فيها مما تقدم عليها ما سنحاول وصفه من ادواء المجموعتين الأخيرتين وبذلك ننهي هذه المحاولة في إعادة البناء آملين ألا يكون ما حاولناه سابقا في الكلام على علوم الملة مجرد كلام بلا ثمرة فعلية.
ما أنوي عرضه ليس تاريخا للمؤسسات السياسية بل هو استرماز بنيوي يفهمنا الحدود البسيطة التي بتواليفها تكونت بنية الصراعات السياسية في الحضارة الإسلامية. وهي طبعا-كما هو موقفي ليست خاصة بالإسلام بل هي بنية كونية لا تخلو منها حضارة-افترضها لبناء نموذج نظري للتحليل شبه البنيوي.
سبق أن بينت أن الإسلام من حيث تعريفه لنفسه بكونه رسالة التذكير الأخير والرسالة الخاتمة فهو بالضرورة سيكون متضمنا للكافي والشافي من التذكير مما هو حاصل عند الإنسان بمقتضى تعريف الرسالة له والتعليل الصريح لما يعلل الختم بمعنى أن طبيعة المهمة والتجهيز المانع من الاعتذار عن الفشل.
وهي إذن رسالة واصلة بين عالمين أحدهما محيط بالثاني يتقدم عليه ويتأخر عنه ويراقبه بين البداية والغاية وبون زماني بالنسبة إلى العالم المحاط ولا زماني بالنسبة إلى العالم المحيط الذي هو سرمدي ما يجعل الرسالة وصلابين الزماني واللازماني ومن ثم فهي رسالة بالضرورة متشابهة الاسترماز كله.
وقد أشرت سريعا في آخر فصول المجموعة الثانية إلى العلاقة بين نوعي التشابه في القرآن البعضي والكلي. فالقرآن يميز في القرآن ما هو محكم وما هو متشابه لكنه يصف القرآن كله بأنه متشابه. وهذه ثنائية محيرة لولا هذا الوصل بين العالمين: فالتشابه الكلي يتعلق بإسترماز المحيط بالمحاط.
كل كلام الله في الرسالة ترجمة للعالم المحيط برموز من العالم المحاط أو بما يوحي للإنسان بتشابه وتشبيه لولا احتراز ليس كمثله شيء (الله) واحتراز لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر (الحياة الاخرى). ولو لم يكن في كيان الإنسان ثنائية القطبين أو علاقة الذاتين لاستحال التراسل.
قد يعجب القارئ من استعمالي ‘تراسل” للظن بأن الله يرسل رسائل للإنسان والإنسان لا يرسل رسائل إلى الله. وهذا غير صحيح. الله أيضا يتلقى رسائل من الإنسان بل ومن كل إنسان سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن. ولذلك فهو سميع. الدعاء رسالة الفعل رسالة القصد في الفعل راسلة النوايا: عليم بالسرائر.
وفي الحقيقة فكل الموجودات متراسلة لان ما فيها من شروط قيامها متوالجة وعلى هذا الأساس نفيت خرافة المنطق الجدلي: فشرط هذه الخرافة أن يكون الشيء متنافي الكيان في ذاته سراع بين موجب وسالب وكأنه منفصل عما عداه من الموجودات فضلا عن الصراع بين كائنين سيد وعبد مثلا: الوجود أوتار متناغمة.
ولا بد هنا من أن أذكر حقيقة تمر في غفلة منا جميعا: فمن خاصيات البعد الروحي من الإنسان إذا كان حيا وفاعلا أنه يكون بالمرصاد لما لم قد يطرا عليه من جديد في إنصاته للوجود فيجعل ما حصل له سابقا ضمن ما يصبح عادة فيتولاه البدن عملا شبه لاواعي وهو العادة: علة السهو في فعل العادة الآلي.
ومن هذا الباب كثرة السهو في الصلوات وفي كل الافعال التي تتكرر حتى تصبح عادة فتصبح وكأن الإنسان ليس حاضرا في عمله المعتاد. وقد عاب القرآن هذه الظاهرة لأنها شديدة التأثير في تنويم الروح عند الإنسان (عن صلاتهم ساهون تعني كذلك فيها عند القيام بها وليس في عدم القيام بها).
ولما كانت الصلاة مراسلة من الإنسان مع ربه فإنها تفقد طابعها بهذا المعنى. لكن البدن نفسه متراسل مع العالم كله فهو لا يتنفس إلا لأنه في العالم وقس عليه كل شروط بقائه التي تجعل العالم وكأنه صدر أم حنون يرضع كل الموجودات التي فيه بكل شروط قيامها ولا يمكن أن يكون ذلك عملا بلا غائية.
وهذه الغائية بعضها يتحقق بقانون الطبائع وهو قانون الضرورة وبعضها يتحقق بقانون الشرائع وهو قانون الحرية أي إن الإنسان هو الذي يدير شأنه الروحي والمادي بسلوكه الذي هو سياسة ذاته من حيث سياسة علاقته بالعالم (العلاقة العمودية) وعلاقته بالبشر (العلاقة الافقية) وهذا مفهوم السياسة.
وواضح أن علاقة الإنسان بالعالم السياسي لا تكون من دون علم قوانين الطبيعة وأن علاقته بالآخرين من جنسه السياسية لا تكون من دون علم بسنن التاريخ: علم الضرورة وعلم الحرية شرطان في قيام الإنسان وكلاهما ثمرة سياسة العلاقة العمودية والعلاقة الافقية وهما متشارطتان حتما.
فالفرد الإنساني لا يمكنه كفرد أن يقوم من دون الجماعة للحماية والرعاية ومن هنا جاءت ضرورة التنظيم السياسي للعلاقات في الجماعة (التاريخ) وتقدمها على التنظيم السياسي للعلاقات بينها وبين الطبيعة (الطبيعة). وهذا التنظيم لا يكون إلا عملا على علم وإلا فهو يؤدي إلى كوارث في العلاقتين.
وبهذين المعنيين يعلل ابن خلدون الدولة التي هي نظام المؤسسات السياسية التي تقوم على تنظيم هاتين العلاقتين الافقية بين الناس في جماعتها وبين جماعتها والجماعات الأخرى في المعمورة ثم بينها وبين الطبيعة مصدر حياة الجميع: من هنا الخلافات بين البشر حول القضية السياسية وما يؤسسها عقديا.
فكيف تكونت الخلافات التي أدت إلى الفتنة الكبرى والتي ترتبت عليها في الفكر السياسي الإسلامي حتى نفهم علل وصولها إلى ما سميناه تعطيل الدستور وحالة الطواري التي دامت أربعة عشر قرنا ونيفا وصارت كل المؤسسات السياسة الإسلامية اسمية لا حقيقة لمسماها وأصيبت السنة بالفصام كلاهما غير فعلها؟
والفرق بين بين الشيعة السنة. فالشيعة لم تعطل الدستور بل ألغته نهائيا لأنها أعادت الوساطة الروحية (الكنسية) والحق الإلهي في الحكم (الوصية). لكن السنة عطلته ولم تلغه في الأقوال لكنه في الأفعال أبقته معطلا تماما وأصبح للامة وسطاء (فقهاء ومتصوفة) وأوصياء بالتغلب وليس بالحق الإلهي.
والتفسير السني كان مبدا الضرورات تبيح المحظورات أي إن ضرورة تجنب الفوضى وتقديم دفع الضرر على تحقيق المنفعة هي التي بررت حالة الطوارئ لمدة أربعة عشر قرنا حيث صار التغلب الذي أريد به منع الفوضى أساس كل فوضى لأن الحاكم الموجود يستعمل البطش للبقاء والذي يريد أخذ منه يبطش أكثر منه.
وبذلك يتبين أن الرسالة التي هي التذكير الاخير تتضمن كذلك المشروع الذي يحقق الحرية الروحية (لا وساطة) والسياسي (لا وصاية). مدار الخلاف الاول قسم الامة إلى سنة وشيعة. إما تنفي الوساطة والوصاية أو العودة إلى الوساطة الكنسية ووصاية الحق الإلهي في الانظمة حررنا منها.
وهذا الانقسام الأول بدأ جنينيا قبل أن يدفن الرسول الخاتم ثم تطور إلى أن آل إلى الفتنة الكبرى. وكانت الحروب التي تلتها بعضها عنيف جرى في القتال والثاني لطيف جرى في الجدال: الخروج في ساحة القتال كان على الإمام علي والخروج في الجدال كان على الحسن البصري.
فصارت الرؤى السياسية للنظام الذي يدعى أنه نظام الإسلام صارت أربعة: ما صار مذهبا شيعيا والتسنن ما صار مذهبا سنيا وكلاهما يدعي تمثيل الفهم الاصح للإسلام ثم خوارج على التشيع في ساحة القتال وخوارج على التسنن في ساحة الجدال. مذهب الوصية الخاصة بآل البيت مذهب الاختيار من قريش.
والخوارج على المذهب التشيع يعممون الوصية على العباد الصالحين ولا يقصرونه على آل البيت والخوارج المذهب السني يعممون الاختيار على العقلاء من المؤمنين. وإذن فقد أصبح لحكم الجماعة أربع رؤى كلها تدعي تمثيل رؤية الإسلام فتكون رؤية الإسلام التي لم تكتشف بعد هي الأصل والباقي تأويلات.