إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

مثلما بينت أن الوجه الثاني من الفقه أو الأخلاق والضمير يغني عن التصوف ولا يبقي منه إلا على المجاهدتين مقومي الاخلاقي والديني فإني سأبين أن الفلسفة لها وجه ثان يغني عن الكلام الذي هو مثل التصوف (ادعاء تجاوز الفقه: الحقيقة مقابل الرسوم) يدعي تجاوز علم الشاهد إلى علم الغيب.

والفرق الوحيد بين دعوى التصوف الكشف ودعوى الكلام غلم الغيب أو تجاوز آل عمران 7 بعطف “الراسخين في العلم ” على الله في قدرة تأويل المتشابه هو الفرق بين التشبهين الأول بالأخلاق والثاني بالعلم على أساس ممتنع عقلا ونقلا.

فلا الاخلاق بحاجة إلى الكشف ولا يمكن اعتبار ما يعنى به الفقه رسوما والحقيقة الغيبية ورائه بحاجة إلى كشف الغيب لعلمنا بامتناع علم الغيب على العلم غير المحيط ولا الإنسان مهما رسخ علمه بقادر على تجاوز علم الشاهد بل إن رسوخه في العلم هو اعترافه بهذه الحقيقة العقلية والنقلية في آن.

أما عطف علم الراسخين في العلم المزعومين على علم الله في تأويل المتشابه فعلته نظرية المعرفة المطابقة التي كان أصحابها يتوهمون ان الوجود يرد إلى إدراكنا. ونسوا أن الله يقول إننا لا نحيط بشيء من علمه إلا بما شاء وقد شاء ابقاء غالب الأشياء الشاهدة خارج علمنا فضلا عن الغيب.

وحتى من لا يؤمن بالقرآن فهو يعلم كذلك أن علمه بالقياس إلى جهله لا يكاد يذكر وأنه كلما ازداد علما اكتشف هذه الحقيقة فالنسبة بين ما نعلم إلى ما نجهل من جنس ما نراه من الافق كلما تقدمنا نحوه ابتعد والظلمة المحيطة ببصيص النور الذي لعقلنا محيط أظلم متلاطم لا شاطئ له. فعلام الكذب؟

فالله اعلم ليست تواضعا بل هي اعتراف بحقيقة ولا تجد منتفخي الأوداج بما يزعمونه من علم إلا بين من تسكرهم زبيبة وهو لا يعلم أن ما علمه لا يمثل خطوة أولى في لا متناه من السعي في المجهول الوجودي يجعله أي اختصاص مادة لبحثه ومحاولة الإمساك بتلابيبه. فعلام الكذب؟

كل ما نقدمه بوصفه علما هو “استرماز” مؤقت أي صوغ لتصوراتنا عن الموضوع الذي نريد قول شيء حول ما أدركناه منه مهما أضفنا لمداركنا الطبيعية (الحواس والبناء العقلي لما نستمده منها من معطيات منقوله عما نسميه الوجود الخارجي) من أدوات تقنية تزيدنا حيرة سواء في لامتناهي الصغر أو الكبر.

وإذن لم يبق إلى “حب الحكمة” أو الفلسفة التي اقتنعت اخيرا بفساد نظرية المعرفة المطابقة وسلمت بأن الدين متقدم عليها في هذا الوعي بحدود العلم دون نفس جدواه (ابن خلدون) وأن العلم بالشاهد هو بالأساس لعلاج مسألتين ناتجتين عن مقومي الوجود الإنساني في العالم: كيانه العضوي وكيانه الروحي

فلو كان الإنسان كائنا عضويا فحسب لكان منغمسا في ضرورات حياته العضوية بوصفه جزءا من الطبيعية المتغاذية بدورتها الذاتية ولما احتاج إلى علاج علاقته العمودية معها بالبحث العلمي والتقنيات التي يستعملها ليستخرج رزقه منها ولما كان شرط ذلك التعاون في الجماعة وبين الجماعات كلها.

وهذا التعاون في الجماعة الواحدة ثم بين الجماعات المتعاصرة والمتوالية لمراكمة التجربة في معرفة مصادر الرزق وشروط استخراجها واستعمالها بصورة لا تؤدي إلى الموت: فاكتشاف اللاسام من النباتات والصالح من الأغذية وإن نساه الجميع هو أول مجال للبحث العلمي المنسي في تاريخ البشرية.

وترويض الحيوان وزراعة المغذيات وفنون توزيع العمل وشروط التبادل والتعاوض ومنع أن يكون ذلك داعيا للنكوص إلى القانون الطبيعي من خلال تنظيم الحياة الجماعية لتكون شبه جهاز إنتاج مادي لشروط الحياة وشبه إنتاج رمزي لفنون البحث العلمي والتطبيق التقني للخبرة كل ذلك ينساه أنصاف المثقفين.

وينساه خاصة اشباه فلاسفة الخصوصية. فما من جماعة لا تشارك بقية الإنسانية في هذه الكليات والمثال الأشد وضوحا هو أنه لا توجد جماعة ليس لها كل أنظمة المكاييل والموازين التي هي شرط التعاوض العادل الذي هو شرط التبادل الذي هو علة التعاون الذي من دونه ينكص الإنسان لقانون الطبيعة كحيوان

والعلامة التي لا تقبل الإخفاء هي أن كل جماعة مهما كانت بدائية فلا بد لها من الرمزين الكونيين في تاريخ البشرية: رمز التبادل ورمز التواصل. والأول مشروط حتى في المقايضة والثاني مشروط حتى في التواصل المباشر. ففي المقايضة بين البضائع والخدمات العملة موجودة حتى باعتماد النسب بينهما.

ومعنى ذلك أن المتقايضين لبضاعتين يقدران قيمة البضاعتين والنسبة بين القيمتين وهذه عملة حتى وإن لم تتعين في مادة كما حصل لاحقا في الذهب والفضة ثم في ا لورق وفي العملة الكتابية كالصكوك إلخ… وتقدير النسب يكون إما بالوزن كميا أو بطبيعة الحاجة إليه كيفيا: العملة هي رمز الفاعلية.

ونفس الامر في التواصل. فمهما اقترب المتواصلان فلا بد لهما من جهاز رمزي هو اللغة التي من دونها لا يمكن أن يتواصلا لأن ما سيتواصلان حوله ليس كله حاضرا بينهما والإشارة إليه لا تكونه بعينه بل باسمه. فيكون الاسم بديلا من المسمى في التواصل. وهو دور الرمز عامة والكلمة خاصة: فعل الرمز.

وإذن فرمز الفاعلية المادية في التبادل أو العملة ورمز الفاعلية الرمزية في التواصل أو الكلمة شرطان مقومان لوجود الإنسان كإنسان ولا خصوصية في ذلك بل الخصوصية في المادة التي تؤخذ لتكون حاملة للرمزية فيه. فالأمريكي اختار ورقة زرقاء سماها دولار والتونسي ورقة سماها دينار شكلي.

فهذا من جنس المادة التي تتأثر بالثقافات المختلفة دون ان تغير جوهر الشيء الذي تعين ثقافيا: مثل ذلك قطع الشطرنج. فالمسيحي يجعل الملك بلباس ملوكه والمسلم بلباس أمرائه لكن القطعة هي دورها في اللعبة ولا أثر لهذا التعين الثقافي فيه لأن هذا الدور يحدده تعريفه وقواعد اللعبة.

والعلم ينشغل بقواعد اللعب الوجودية في علاقتي الإنسان بالعامل وبالإنسان وبما ورائهما المتخيل والذي لا يستطيع التوقف عن تخيله دون أن يعتبر ذلك علما بل هو انشداد روحي إلى ما يتجاوز ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة وهو علامة الروحي فيه. وسره في الذاتين المتلازمتين: الله والإنسان.

وتلازم الذاتين الله والإنسان هو الماوراء المطلق في المعادلة الوجودية ما وراء الطبيعة (الله) وما وراء التاريخ (الإنسان) وهو في آن جوهر الديني وجدانيا وجوهر الفلسفي عقليا. وليس بالضرورة أن يكون ذلك مرئيا من الإنسان بعين الرضا فقد يكون مصدر الإيمان والرضا ومصدر الكفر والسخط.

وتلك علة قولي إن الالحاد مستحيل بل أكثر قلت إنه لو كان ممكنا لكنت أول الملحدين. ذلك أن الإلحاد هو الإيمان السالب بمعنى أن الملحد يكفر لفرط ما ينزه. فلسان حاله يقول لو كان الله موجودا لما وجد ما ينافي ما انتظره منه بحكم عقلي (نفي الظلم والمرض إلخ.. من تشوهات الطبيعة والتاريخ)

وأكاد أجزم بأن كل محاولات علم الكلام صادقها بداية زائفها غاية تسعى إلى الانتقال من هذا الإيمان السالب إلى الإيمان الموجب. وهي محاولات صادقة بداية لتوهم الإيمان ثمرة فعل عقلي وليس ثمرة فعل وجداني مجهول الطبيعة وزائفة غاية لأنها تتحول إلى مرض الزعامة الجدلية المنافقة.

ويعلم الله أني لا أقول شيئا فيما أكتب لم أعشه ولم أجربه ولم أكتشف زيفه لأن قصدي ليس التعليم الموجه للشباب فحسب بل وكذلك شبه الاعتراف بمراحل التطور الفكر ي والروحي الذي لا أريده أن يمر سدى وأن أسجله حتى يستفيد به ذو الفطنة بموجبه وسالبه ككل اجتهاد انساني شديد النسبية.

والحصيلة التي وفقني الله إلى استنتاجها من قراءة القرآن فلسفيا (هكذا سميت عملي ربما لعادة مهنية) أن الفقه هو عمل القانون وعلم الأخلاق كما وصفت وأن الفلسفة هي علم الوسطين الطبيعي والتاريخي وعلم ماورائهما أي الثيولوجيا والانثروبولوجيا أو علم تصورات الإنسان لله ولذاته.

فتكون العلوم البديلة للاستئناف هي: فقه القانون أو فلسفة القانون بكل اصنافه وفقه الاخلاق أو فلسفة الأخلاق وهما فرعا الفلسفة العملية أو الفلسفة السياسية بمعناها الاتم. أما في فلسفة النظر فالعلوم البديلة هي فقه الطبيعة وفقه التاريخ أو علومهما الرياضية والسننية.

وفقه الطبيعة أو فلسفة الطبيعة هي العلوم الطبيعية ذات البنى الرياضية التجريبية وفقه التاريخ هي فلسفة التاريخ أو العلوم الإنسانية ذات بالبنى الرمزية الأشد تعقيدا من الرياضيات والتجريبيات لأنها بالجوهر تأويليات وهي غاية الاسترماز فمع كونها تنحو للعلمية تبقى صورة الإنسان عن ذاته.

ثم وراء هذين الفلسفتين الماوراء المضاعف: ما وراء فلسفة الطبيعة أو سؤال الثيولوجيا (فقه رؤية الإنسان لله) وما وراء فلسفة التاريخ سؤال الانثروبولوجيا (فقه رؤية الإنسان لذاته) والفقهان متلازمان تلازم الذاتين بمعنى أن الثيولوجيا والانثروبولوجيا أختان توأمان لا بالرضاع (ابن رشد).

والتوأمية هي بنية الوعي الإنساني: فمهما فعل الإنسان متصوفا كان أو متكلما لا يمكنه في محاولة التخلص منها أن ينفي أحد قطبيها من دون أن ينتهي إلى نفي الثاني: فلما قال هيجل إن الله قد مات (ويقصد يأس المسيحيين بعد هزيمتهم في الصليببات) آل في دلالته النيتشوية إلى موت الإنسان.

لكن موت الإنسان النيتشوي جعل النيتشوية سعيا لتحديد كيان فوق الإنسان ودون الله في غياب القطبين وهو مفهوم متناقض لأن المسعى ذاته دليل على بداية وغاية ونفي البداية والغاية هو عدم النهاية وهو ما سماه في الحقيقة بالعود الأبدي فتكون الطبيعة الفنانة بمعزل عن الخير والشر هيجان اللامعنى.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي