لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
إعادة البناء التي أسعى اليها تبدأ بالسؤال عن دور الاسترماز كما يمكن فهمه من خلال التجربة الإنسانية في البعد الثاني من الآفاق أعني في التاريخ الذي هو ما يضيفه الاسترماز للوجود الطبيعي في العالم وفي الإنسان ليتضاعف تاريخه فلا يبقى زمانه طبيعيا بل يتحول إلى زمان طبيعي ورمزي.
وهي إشارة قرآنية في النص لكنها لا تفهم بشرح النص بل بطلب آيات الله الخاصة بها في الآفاق والانفس أي فيما به اعتبر آدم أهلا للاستخلاف في استعماره للأرض شرطا في قيامه العضوي المتقدم على قيامه الروحي والمتعين في الاستعداد للاستخلاف: علمه الأسماء علمه البيان علمه القرآن.
وهي ثلاث مستويات من القدرة الترميزية وبينها الاول والثاني وسيط وبين الثاني والثالث وسيط وهي مستويات الترميز أو الاسترماز (أي ترجمة الوجود الفعلي بالرموز الممكنة من التعامل معه: طلب رموزه أو الآيات التي يرينها الله فيه). فمن الأسماء إلى البيان ومن البيان الى القرآن وسطيان.
فالإنسان من حيث هو إنسان مسم. وإذن فهي صفة عامة. لكن البيان ليس عاما بل لا بد فيه من قدرة على فهم علاقة الاسم بالمسمى أو التمييز بين الحقيقة والأسماء التي سميتموها أنتم وآباؤكم وإذن بداية تحري الصدق وعدم عبادة التحريف الذي يفسد الأديان والاذهان. ومن البيان إلى القرآن وسيط.
وهذا هو مربط الفرس: القرآن يقول إن تبين حقيقته ليس في آيات نصه (فقراته) بل فيما يرينه من آيات في الآفاق والانفس. وإذن فالوسيط لتعلم القرآن هو آيات الله في الطبيعة وفي التاريخ وما يوحيان إلى الإنسان من تجاوز للسؤال عما ورائهما أصلا للأسئلة الوجودية ومناط السؤال الديني الفلسفي.
ومن لم يفهم الترابط بين هذه المستويات الترميزية في كيان الإنسان لا يمكن أن يدرك حقيقة قولي إن الأسئلة الوجودية الكونية هي عين مناط السؤال الديني والفلسفي الكوني وأنهما شيء واحد إلى عند أنصاف المثقفين الذين تسكرهم زبيبة فيتصور الفلسفة للخاصة بالجوهر والدين للعامة بالجوهر.
ولما كان سكرانا بزبيبة فهو لا يفقه أن دعواه الإلحاد بحجة التفلسف دليل على غبائه الفلسفي لأني ما عملت فيلسوفا ملحدا أبدا لأنه إن لم يكن قائلا بالإله الشخص فهو حتما قائل بما يشيه تأليه الطبيعة كلها أو بعضها أو تأليه التاريخ كله أو بعضه أو مختل عقليا لا يميز بين المادي والروحي.
فمجرد عودته على نفسه ليكون الذات التي تعي نفسها موضوعا قائما بذاته خارج وعيها يعني أن المستوى الثاني من ذاته غير المستوى الاول من ذاته وأن هذا المستوى الثاني يسمي ذاته ويبين ما يصدر عنها ويطلب آيات الله فيها ليعلم قوانينها ولا يبقى له إلا الإيمان لأن من وصل إلى هنا لا يكذب أبدا.
والإيمان لا يعني اليقين المطلق بل هو خيار حر بين رؤيتين للوجود: قابلة به كما هي وراضية به أو رافضة له وغير راضية به. لكن التنطع ليس علما والشك ليس جهلا بل هو التردد والنوسان الذي لا يخلو منه إنسان بمن في ذلك الانبياء وإلا لما قال القرآن {حتى إذا استيأس الرسول وظنوا …}.
فالصمود أمام سيلان الوجود وتلاطم أمواجه ليس في متناول كل البشر إذ حتى الانبياء يقعون في مطباته التي يذكرها القرآن وخصص لها سورة الرحمن كلها وهي سورة لي معها قصة شخصية أحب التذكير بها. لما كنت طفلا كنت أعجب من المخاطبين بهما: فبأي آلاء ربكما تكذبان. إنهما من لم يخلقا إلا للعبادة.
ولم أتخلص من حيرتي -كيف لمن لم يخلق إلا للعبادة أن يكذب بآلاء ربه-إلا بفضل التمييز بين الإنشاء الذي يبدو خبرا: فالقول وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدوني” خبرية وحصرية ومؤكدة من حيث الصيغة اللغوية لكنها من حيث الدلالة الروحية هي تحديد إنشائي يأمر بشرط أهلية الاستخلاف.
فشرط أهلية الاستخلاف هو أن يجعل الإنسان وجوده عبادة لله في استعماره للأرض بقيم الاستخلاف لأن الله لم يستخلفه إلا لهذه الغاية فيكون المقصود بالعبادة هو تحقيق الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف اختبارا لهذه الاهلية وهي رهان الله على الإنسان الحر والكريم والمكلف قبل الدنيا وبعدها.
إنها منزلة الإنسان الوجودية: ومنها يبدأ المعنى الديني والمعنى الفلسفي لوجود الإنسان ولتجربته الروحية خلال حياته الدنيوية وما يتجلى له فيها من آيات تبين له حقيقة القرآن أي حقيقة كلامه على المعادلة الوجودية بقطبيها الله والإنسان وعلاقتيهما مباشرة وغير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ.
خصصنا فصلا كاملا للتمهيد لإعادة البناء وفي الحقيقة لم يكن هذا الفصل إلا خاتمة عدة محاولات بدت وكأنها تهدم الموجود بهدف الانطلاق نحو المنشود. لكنها كانت محاولات بيان حاجة الموجود لتجاوزه بعد أن فقد نسغه الحي وقدرته على تحقيق شروط الاستعمار في الارض فضلا عن شروط الاستخلاف.
وليس لذلك أدنى علاقة بمنزلة المرجعية الروحية للأمة بل هو متعلق بقراءاتها وتأويلاتها السابقة علما وان السرمدي في المرجعية أزلا وأبدا هو كونها معينا لا ينضب للتأويل والتحليل ليس بالمضمون بل بما توجه إليه وعي الإنسان من مناظير لرؤية ما في الآفاق والانفس من آيات الله.
وعندي أن كل من يجمد دلالات القرآن ومعانيه المحدد لمناظير الرؤية يوثنون ما توصلوا إليه في مراحل نضوح الوعي بالاعتماد على نظرية المعرفة المطابقة ليجعلوها مضاعفة: مطابقة بين ما يوجه إلى القرآن من مناظير ومنظورهم وبين حصيلة “علومهم” وحقائق الوجود على ما هي عليه.
فيصبح كل مس بـ”علومهم” مسا بالمرجعية التي توهموا مطابقة أولى بين علومهم وما تشير إليه المرجعية إشارات تزدادا ثراء كلما نضج الوعي بمستويات الترميز الخمسة التي ذكرتها وبقدرة الإنسان على ترجمة علاقاته بالوجود الطبيعي والتاريخي وما يفترضه وراء لهما إلى المستوى الثاني من كيانه.
والمستوى الثاني من كيان الإنسان هو إن صح التعبير حصيلة تاريخ الإنسان أو ما أضافه الإنسان إلى عالم الطبائع وقد سميته عالم الشرائع أي ما وضعه الإنسان لترجمة العلاقتين العمودية (بينه وبين الطبيعة) والأفقية (وبين البشر) واعترافا لابن خلدون بالفضل مستويي: العمران والاجتماع.
وغاية هذا النضوج يمكن ترجمتها دينيا بما سماه القرآن “تين الرشد من الغي” الذي يلغي الحاجة إلى الإكراه في الدين أو يحقق شروط الحرية الروحية التي تجعل الإنسان يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فيشعر بأن كيانه صار مطابقا للمعادلة الوجودية التي وصفت: وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
وهذا هو الإيمان الحر أو الآلهية (فعل والله هو المألوه وهي علاقة حب) في مقابل الإيمان المضطر أو المربوبية (انفعال والله هو الرب) فيحصل التناظر بين الموقفين الذي يمكن من كلام على {رضي الله عنهم} و{رضوا عنه} التي كنت استغربها لظني أن الله غني عن رضانا عنه.
وما دام هذا كلامه فلست أدرى منه بما يريد: هو لا يستغني عن رضا عباده. والمعنى أن تحرير الإنسان المشروط في التكليف والاختيار والحساب على الاجتهاد والجهاد يجعل الإيمان الحر وبيان أهلية الاستخلاف هما علامة رضاهم عن الله وعلامة رضا الله عنهم وهي إذن نفس العلامة.
ولأبدأ الآن بأول علوم الملة الذي أريد إعادة بنائه: الفقه وأصوله. لا بد من شرطين إذا كنا نريده أن يكون علما يقوم بوظيفته التي تتعلق بالقانون وبالأخلاق في حدود عالم الشهادة:
والثاني فهم مفهوم التشريع للتشريع.
وهذا المعنى الثاني جوهري لأننا لو حاولنا جعل القرآن تشريعا للنوازل لوقعنا في محظورين أو هما غصب دلالات الأحكام حتى نصدق قول القرآن بأنه ما فرط في الكتاب من شيء بقصد غير مفهوم ولجعلنا قياسات خرقاء وكأنها مناظرة لتشريعات نتوهمها في القرآن فنضفي عليها قدسيته وهي إنسانية.
فينتج عن ذلك وحتى لا نكذب القرآن ولا نغتصب قدسية زائفة نضفيها على تشريعات وضعية متنكرة علينا أن نعترف بأن المشرع للنوازل هو الإنسان ولا أحد غيره وأن المشرع للتشريع هو الله ولا أحد غيره. وهذا يصح على النظر والعمل عامة. فقوانين الطبيعة وسنن الأخلاق ليست من صنع الإنسان.
لكن أعيان القوانين التي يكتشفها الإنسان هي من تشريعه وهي تكون تشريعا شرعيا ما لم تتناف مع شروط طلبها بمقتضى طبيعتها أعني البحث عنها بشروط منهجية لا يمكن من دونها الوصول إليها وتلك هي تشريعات التشريع العلمي في النظر وفي العمل الإنسانيين.
وما دمت أتكلم على الفقه أو التشريع الإنسان للعلاقات بين البشر والنوازل التي تحصل عن الخلافات حول ما يتنافسون عليه من شروط العيش (الاقتصاد خاصة) وشروط المنزلة في الجماعة (الاخلاق خاصة) والوجود (اساس نوعي الشروط) فإن الامر يتعلق بشروط حماية حريتي الذات وضعا وخضوعا للقانون.
فيكون الفقه هو نظام الحريات والحقوق والواجبات في جماعة أفرادها أحرار روحيا (لا وسيط بينهم وبين ربهم) وسياسيا (لا وصي عليهم بينهم وبين أمرهم). أساس الفقه كعلم للتشريع المتعين في تنظيم جماعة معينة لعلاج نوازل معينة إنساني بمعايير تشريع التشريع الذي هو إلهي (دينيا) أو طبيعي(إلحاديا).
ومعنى ذلك أنه لا فرق من حيث البنية المنطقية للقانون بين الديني والإلحادي: كلاهما يعتبر التشريع الأصلي ليس تشريعا للنوازل العينية بل هو تشريع لهذا التشريع أي إنه محدد للمعايير التي إذا توفرت في التشريع المباشر يكون تشريعا شرعيا بمقتضى معايير التشريع غير المباشر.
فيكون الفرق بين المؤمن والملحد هو اسم التشريع غير المباشر: المؤمن يسميه تشريعا إلهيا لشروط شرعية التشريع للنوازل والملحد يسميه تشريعا طبيعيا لشروط شرعية التشريع للنوازل. وبالتدقيق فالملحد يسميه حقوق الإنسان وهو ما يطابق ما يسميه المؤمن واجبات الإنسان نحو ذاته والعالم.
ذلك أن اعتبار حقوق الأنسان طبيعية أو إلهية قضية عقد وليست قضية علم. ما هو علمي في الحالتين هو ان الإنسان لا يمكنه أن يشرع كما يهوى بل توحد شروط ليكون التشريع تشريعا مشروعا: بمعنى أن صفات القانون هي التي تضفي عليه فعل القانونية وهذه ليست تحكمية ولها علاقة مباشرة شبه موضوعية.
وحتى هذه المبادئ فهي لا تؤخذ من النص بل مما وجه إليه النص الإنسان لتبين حقيقة القرآن أي من الآفاق والانفس في الفقه من التجربة التاريخية التي تبين نجاعة تجارب التشريع الإنسان في تحقيق وظائفه ومنها تستنتج المبادئ العامة التي تضفي الشرعية على التشريع وهي مؤيدة لحقيقة القرآن.
وبهذا المعنى فالفرق بين النوعين لا يتعلق بالحاجة إلى المستويين: التشريع للنوازل بأعيانها المتحيزة في المكان والزمان بكل ملابساتها الظرفية والتشريع لهذا التشريع أو وضع المبادئ العامة التي تجعله تشريعا مشروعا في الحضارة الإنسانية عامة لأن العلاقتين العمودية والافقية مقومان كونيان.
وهذا هو اساس الدولة أو التي هي تعين السياسة في ذات مجردة تمثل تشخيص معنوي للجماعة بوصفها حامية وراعية لذاتها حكما وتربية في علاقة بالعالم الطبيعي وبالعالم التاريخي: فلا توجد جماعة تعرف بالداخل وحده بل هي تعرف كذلك بما يحدها من الجماعات المحيطة بها مكانا وزمانا.
ولهذه العلة فلا يوجد قانون داخلي محض بل لا بد أن يكون مصحوبا بقانون خارجي لأن السياسة الدولية متقدمة على السياسة الداخلية لعلتين: فقبل وجود ما يقبل هذا الاسم كل القبائل توجد أمام تحد داخلي غالبا ما تسيطر عليه بسلطة معنوية وتحد خارجي لا بد من سلطة مادية (قوة عسكرية).
ويمكن أن نقول إن أول قانون شبه خارجي هو قانون الهدن الدينية أو الاشهر الحرم بين القبائل المنتسبة إلى نفس المجال الحضاري وهو قانون خلقي معنوي يوقف دور القوة المادية. ولما تكبر الجماعات وتتجاوز الجماعة القبلية لتصبح دولة فإن القوة المادية تصبح ضرورية في الداخل والخارج.
تلك هي مجالات النظام القانوني في أي جماعة وهي ترى بوصفها آيات الله في الآفاق والأنفس وعندما ندرسها فيها نجدها مطابقة لما يوجهنا إليه القرآن الكريم إيجابا وسلبا: فرسالة التذكير الاخير يعرفها القرآن كذلك بأن رسولها بشير لمن يتذكر ونذير لمن ينسى.