لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
لحد الآن لم نر من الفقه إلا أحد وجهيه. وحتى نفهم ذلك فلنذكر تمييز ابن خلدون بين نوعي الوزع في أنظمة حياة البشر: الوزع الأجنبي أو الخارجي وهو ما حاولنا فهمه في الفصل السابق من الفقه. والوزع الذاتي أو الباطني وهو ما سنشرع الآن في علاجه وهو يمكن أن يفهم كوزع ديني أو كوزع خلقي.
وما يحول دون فهم وحدة الوصفين ديني أو خلقي هو عينه ما يحول دون فهم وحدة النسبتين ديني وفلسفي. فعندما نخلط بين الدين والسلطة الدينية لمن يدعي تمثيله يصبح الدين غير الاخلاق أنه يصبح وزعا خارجيا للوسيط بين الإنسان وربه فضلا عن تصوير سلطان الرب على الإنسان كسلطان الإنسان عليه.
لكن إذا حررنا الديني من هذا التحريف وحررنا الفلسفة من ظنها عملية منطقية لا علاقة لها بهذا الدافع الذاتي لفهم معضلات الوجود فإنهما يصبحان نفس الفاعلية الإنسانية للتعامل مع المعادلة الوجودية ويصبح الديني والخلقي شيئا واحدا هو الوزع الذاتي أو الوزع الباطني ويرد إلى مبدأين بسيطين.
المبدأ الأول أن يعامل الإنسان غيره كما يريد أن يعامله غيره في المسائل التي إذا لم يطبق فيها هذا المبدأ يحصل العدوان بين البشر حول ما يتنافسون عليه أعني شروط العيش والمنزلة في الحياة. والمبدأ الثاني السلوك الأسلم للرد على العدوان لئلا تنكص الإنسانية إلى قانون التاريخ الطبيعي.
ومعنى ذلك أن من شروط الوزع الذاتي السوي أن يوجد وزع خارجي سوي يحول دون تحصيل الناس حقوقها ورد العدوان عليها بذاتها بل وجود حكم رادع خارجي يمثل سلطة الجماعة في الفصل بين أفرادها عندما لا يعمل الوزع الذاتي فتحصل نزاعات وتظلمات وكذلك في حالة العدوان الخارجي عليها.
وإذن فالوزع الذاتي هو الاصل وهو بمقتضى القرآن وبمقتضى العقل (لمن لا يؤمن بالقرآن) فطري في الإنسان إما بمقتضى خلق الإنسان الإلهي عند المؤمن أو الطبيعي عند الملحد: فالإيمان وعدمه في القضية لا يغير من الامر شيئا. فلا يمكن القبول بأن الإنسان يولد عبدا ويتحرر بل يولد حرا ويستعبد.
ومجموع الوزعين هو السياسة سواء اخذنا هذا المفهوم بمعناه الديني أو خاصة بمعناه الفلسفي: السياسة هي الحكم (الوزع الخارجي) والتربية (الوزع الذاتي). وتقدم الثاني على الاول هو الذي جعل ابن خلدون يعتبر التربية العنيفة علة الحكم العنيف والعنفان علة فساد معاني الإنسانية في الفرد والجماعة.
وبذلك وصلنا إلى الوجه الثاني من الفقه أو الأخلاق وهو يلغي مفهوم التصوف من أصله لأنه لا يبقي إلا على مفهوم المجاهدتين الأوليين مما يسمى عادة تصوفا: أي مجاهدة التقوى أو العمل بالمبدأين اللذين وصفت ومجاهدة الاستقامة أي المواظبة على مراقبة النفس وحركاتها وسكناتها أو ديمومة التقوى.
والوجه الأول من الفقه أو الوزع الخارجي هو فعل الجماعة كدولة والوجه الثاني من الفقه هو فعل أفراد الجماعة بمقتضي ما ينبغ من ضمائرهم من أخلاق سلوك التعامل التي قد تغني عن اللجوء لقوة الدولة بوصفها الحكم بينهم عند حصول العدوان حتى لا يرد عليه بعدوان فيتسلسل.
ولما كانت العلاقة بين الجماعات تمر ببعدها كدولة وليس كضمائر فردية ولما كانت لا توجد دولة كونية تمثل الوازع الخارجي بين الدول فإن الاحتكام بين الدول هو في الغالب إلى السلاح وقلما تنجح الدبلوماسية إذا لم يكن وراءها ما يحقق ردع المعتدي. وللإنسانية دائما قانون دولي ولو مبدئيا.
والجميل في أمر الفقه القرآني هو أنه يضع الوجهين دائما معا ويقدم الوزع الذاتي أو الباطني على الوزع الاجنبي أو الخارجي. وذلك خاصة في المؤسسات التي بين الفرد والدولة كالأسرة. فأحكام الأسرة مبنية أولا على الوزع الذاتي والاخلاق والوزع الخارجي حل أخير بعد فشل وساطة الجماعة خلقيا
وقد يلومني القارئ المتسرع فيرى فيما أقول تعارضا مع نفيي الاستعمال المباشر لنص القرآن وضرورة المرور بالآفاق والأنفس لأني أرجعت الوزع الباطني إلى الديني المحرر من الوساطة الإنسانية والوصاية السياسية. وحتى أوضح ذلك لا بد من تعريج طويل احتاج فيه إلى صبر القراء.
وسيبدو ذلك وكأنه استطراد لكنه في الحقيقة تأسيس للعلاقة بين الوزعين الأجنبي (حكم القانون في الأفراد والجماعات أو الدولة) والذاتي (حكم الضمير في الأفراد والجماعات أو الاخلاق)وكلاهما لا تخلو منهما دولة مهما كان أصحابها ملحدين كما يتوهم من يعتبر الدولة الحديثة والعلمانية لا أخلاق لها.
وإذا جاز لي القول العابث الذي من جنس اتهام الدولة الحديثة والعلمانية بأنها عديمة الأخلاق بمنظور من يحصر الاخلاق في الدولة الدينية فإن العكس هو الأصح: فالدولة العلمانية وحتى الملحدة أكثر تناسقا في المسألة لأنها تعتبر أخلاقها هي أخلاق القانون الطبيعي والحقوق هي ثمرة توازن القوى.
وهي إذن لا تنافق وتعتبر أن من حق الإنسان أن يدافع عن حقوقه بمنطق أخلاق القوة فلا تخضعه لتحريف عقيدتها فتجعل طاعة المستبدين والفاسدين من أخلاقها بل من واجباتها الدينية بخلاف القرآن والدين السوي: الدولة الدينية تحريف للإسلام الذي ينفي اساسيها: الوساطة الروحية والوصاية السياسية.
فالقضية كلها تعود إلى أن الإنسان من حيث هو إنسان كما يعرفه القرآن له مقومان أحدهما يضعه في علاقة عمودية مع الطبيعة مصدر شروط قيامه العضوي كفرد (الغذاء) وفي علاقة أفقيه مع البشر مصدر بقائه كنوع (الجنس) وأن العلاقة الأفقية مقدمة على العمودية لأنها شرط حل معضلاتها بالعلم والعمل.
وهذا هو ما سميته الاسترماز: لولا التواصل بين البشر المتساوقين في الوجود والمتوالين لما تحقق للإنسان جملة العلوم والفنون والممارسات التي تمكنه من استثمار ما يسمى بتسخير الطبيعة حتى يحقق شروط بقائه (الغذاء) التي هي ثمرة عمل جماعي دائما: تقاسم العمل والتبادل والتعاوض بين البشر.
فيكون جل البشر بهذا المعنى لا صلة لهم مباشرة بالطبيعة إلا من كان منهم “نحلة عيشه” (بلغة ابن خلدون) في صلة مباشرة بها مثل البدو والمزارعين. وهؤلاء كما هو معلوم أحرص الناس على هذه العلاقة المباشرة واحترام الطبيعة التي يعلمون أنها مورد رزقهم وشرط بقائهم.
وفي المقابل تجد من يسميهم القرآن بالمترفين الذين لا علاقة لهم بالطبيعة بل إن بينهم وبينهم كل الجماعة التي تخدمهم عبيدا تعمل بهم ما تريد ولا يهمها أن تفسد في الأرض ولا تحترم العلاقة العمودية والعلاقة الافقية. ولهذا كان القول إن المترفين بفسقهم يجعلون القول صادقا على قريتهم فتدمر.
طبعا فالقصد بالتدمير ليس الزلازل والكوارث الطبيعية وإن كان ذلك ليس مستبعدا بعد أو وصلت فنون البشر التقنية إلى التلويث الكافي لجعل المناخ نفسه مصدر تدمير لكن القصد الاول هو أن علاقات البشر بسبب ما يتنافسون عليه تصبح مصدر التدمير الذاتي للبشر أنفسهم بأنفسهم.
فنرى عندئذ العلاقة بين القانون والأخلاق أو بين الوزعين الأجنبي والذاتي. فما يفسد الفطرة وتأثيرها هو فقدان الوعي بدور العلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والأفقية العلاقة بين الإنسان والإنسان في كيانه كفرد “يرضع” الطبيعة مباشرة و”ترضعه” الحياة مباشرة وسيطا بينهما يعمر ويخلف.
واختلال أي من الدورين -يعمر ويخلف أو يعمر بأخلاق الاستخلاف-هو الذي يتعلق دور الفقه بحمايته بالوزعين الذاتي والاجنبي والثاني من دون الاول وخاصة إذا قضى عليه هو الاستبداد والفساد. والفقه الذي عاشت عليه الأمة نهى عن منكر بما هو أنكر: الخوف من الفوضى آل إلى جعلها قانونا.
وذلك هو قصدي بالقوانين الاستثنائية لحالة الطوارئ: خوفا من فوضى الحروب الأهلية التي تلت الفتنة الكبرى شرع الفقه تعطيل الدستور القرآني وقبل بإضفاء الشرعية على المتغلب فانتقلت الامة من الخلافة إلى الملك العضوض حكما وتربية حتى وإن حافظت على اسم الخلافة.
لم يبق للضمير وجود (وهو معنى فساد الإنسانية الخلدوني) ولم يبق للحكم طبيعته ولا اسلوبه ولا أخلاقه: فطبيعته (أمر الجماعة) وأسلوبه (شورى بينهم) وأخلاقه (الامانة والعدل). فصار الفقه مصابا بالفصام أقواله غير أفعاله ثم بالتدريج صارت الأفعال المنافية للدستور مفروضة حتى على الاقوال.
والفرق الوحيد بين الفقه السني والفقه الشيعي هو أن الثاني ألغي الفصام بأن ألغى ثورتي الإسلام: أعاد الكنسية وأعاد الحكم بالحق الإلاهي وهما الثورة الروحية والثورة السياسية اللتين أسست لهما الرسالة الخاتمة أو التذكير الاخير للبشرية بمقومات دستورها النظري (العلم) والعملي (السياسة).
وقد قلت إن الضمير الممثل للوازع الذاتي والذي هو الديني الفطري (بشرط عدم الخلط بينه وبين السلطة الدينية التي هي مؤسسات وضعية ولا علاقة لها بالديني من حيث هو ديني: هي شرطة الوساطة والوصاية) والاخلاقي الفطري ينهي مسالة التصوف ولا يبقي إلا المجاهدتين.
التصوف في شكليه الذي يشجعه الاستعمار والاستبداد هو تحريف المجاهدتين وجعلهما خدعة للسيطرة على ضمائر الافراد وإرادة الشعوب التي تريد أن تكون كما يصفها القرآن شعوبا حرة وكريمة ولا تتفاضل إلا بالتقوى أي بالمجاهدتين اللتين هما الضمير الخلقي والروح الديني في الإنسان المستخلف.
وهو تعالم زائف يدعي أصحابه العمق لكنه لا يصح فيه إلا ما قاله فيه نيتشه: التصوف ليس عميقا فسحب بل هو ليس حتى سطحيا. هو دجل: فإذا كان الرسول يعترف بأنه لا يعلم الغيب فكيف بالدجالين من جنس من يجندهم طاغوت الاستبداد والفساد وعملاء الاستعمار أن يكون لهم ما يزعمون.
لا وجود لعلم لدني وكشف للغيب. والنبي نفسه لم يكشف له الغيب ولم يرد على المعاجزين إلا بالقول إنه لو كان يعلم الغيب لبجل نفسه بكل الخيرات. والقرآن ليس معجزا بكونه مدونة علمية بل هو معجزة لقوله بالنظام الطبيعي والتاريخي والخلقي وبالسنن الثابتة الدالة على الحكمة خلقا وأمرا.