إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله إعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف

فالعملية ليست قطعا مع القرآن والسنة بل قطعا مع نوع الاعتماد عليهما المشروط بالطريقة التي حدداها لفهمهما بما يحيلان عليه وليس بشرح ألفاظهما شرحا ليس له ناظم ولا حاكم إلا التحكم التأويلي الذي بلغ الذروة في الفهم الباطني الملغي لهما إلغاء فعليا بلدنية تشبه الوحي المتصل للأيمة.

وهو في الحقيقة جوهر استعادة ما حررنا منه الإسلام أعني الوساطة الكنسية في العلم والتربية والوصاية السياسية في العمل والحكم أعني النظامين اللذين كانا سائدين عند نزول القرآن في الامبراطوريتين الكبريين امبراطورية فارس وامبراطورية بيزنطة وهما ما تبنته دولة الإسلام بعد الفتنة الكبرى.

والشيعة التي تبنتهما صراحة كانت مثل المعارضة في دولة الإسلام والسنة تبنته خفية فعاشت فصاما بين الأقوال والافعال أي إنها في أقوالها تعتبر ما تجري عليه أفعالها من المحظورات التي تبيحها الضرورات بحيث إن الحكم صار حقا طبيعيا للقوة وهو معنى أضفاء الشرعية على المتغلب.

ولأن المتغلب يعلم أن التغلب يمكن أن يؤدي إلى سلسلة لا متناهية من التغالب فيأتي من يتغلب عليه وهكذا دواليك احتاج إلى التحريف الثاني وهو تحريف المعرفة بجعل الفقهاء والمتصوفة سلاحه اللطيف أو الناعم بلغة الكافرين بالنعمة: فأصبحوا موظفين لديه يختار من يطوع الواجب للواقع.

وهذه هي حالة الطوارئ التي تكلمت عليها والتي دامت أربعة عشر قرنا من تاريخنا أي منذ نهاية الحروب الأهلية التي ترتبت عليها إلى بداية ثورة الشباب التي يظن أنها عديمة العمق التاريخي والتأسيس النظري فاعتبرت إما فزة عفوية أو مؤامرة استعمارية لكأن الاستعمار بحاجة للتآمر على عملائه حكام العرب.

ولا يظنن أحد أني أتكلف فيما أدعيه لثورة الشباب بجنسيه فأطلب لها تأسيسا في تاريخ الإسلام وشروط فهم القرآن باعتباره محددا للدستورين المعرفي والسياسي وجمعهما هو ما يعتبره القرآن جوهر ما يقتضيه كيان الإنسان لسياسة علاقته بالعالم وعلاقة البشر بعضهم بالبعض باعتبارهم اخوة متساوين.

ذلك أنه لا يمكن أن يكون اختيار أهم شعار للثورة وليد الصدفة أو التولد الطبيعي: فأن يختار الشباب في كل بلاد العرب بيتي الشابي شعارا لثورتهم دليل قاطع أنهم بوعي أو بغير وعي كانوا يعلمون أن ما حل بالأمة سببه فهم القضاء والقدر بعكس ما قصده القرآن الكريم: بيان دور الإنسان في التاريخ.

أعلم أنه سيرد علي بلغة القذافي أو بلغة السيسي: من أنت؟

كيف تدعي ما يشبه تسفيه أجيالا من العلماء والامراء ممن حافظوا على كيان الأمة رغم ما تعيب عليهم من إخراجها من التاريخ الفاعل وابقائها في التاريخ المنفعل مستعبدة مرتين منهم وممن يستعبدنا بهم بسبب تحويلنا أوطاننا إلى محميات؟

وحاشا أن أسفه أحدا حتى لو كان إنسانا أميا فكيف بمن لا أشك في تكوينهم العلمي. لكن من شروط العلم أنه يتطور وأنه في الحقيقة تاريخ إخطاء البشر الاجتهادية بالطبع. لذلك فكل محاولة لتجاوز الماضي في المعرفة ليس انكارا للماضي بل تثمين لما بينه حتى سلبا لأنه يلغي انتهاج الطرق المسدودة.

وطرق المعرفة المسدودة نعرفها بنتائجها: فإذا كانت هذه العلوم قد انتهت إلى جعل الامة عزلاء وعاجزة عن تحقيق مهمتي الأنسان أي الاستعمار في الأرض بالعمل على علم بقوانين الطبيعة والاستخلاف فيها بالعمل على علم بسنن التاريخ فمعنى ذلك أن هذا العلم زائف وأنه آل إلى طرق مسدودة.

وهي ثورة تبين أن القرآن معجزة ليس لأنه يتضمن خرافة الأعجاز العلمي فيكون مدونة للعلوم أعني ما فهمه الماضي -والغريب أن أصحاب هذه الفكرة يدعون العلم الحديث-بل هو معجزة بقلبه مفهوم الإعجاز: الإعجاز القرآني ليس خرق النظام الطبيعي والتاريخ بل إثباته ومطالبته لنا بتبين حقيقته منهما.

ولا علاقة لهذا التصور بما ينسب إلى المعتزلة أو الفلاسفة من العقلانية: فعقلانيتهم المزعومة لا يقول بها أي عاقل يفهم معنى العقل ومعنى ما بينه ابن خلدون من الوجود لا يمكن ان يرد إلى الإدراك ومن ثم فنظرية المعرفة المطابقة متنافية مع اي عقل سليم. ما نعلمه من الوجود مضوأة منظورية.

وما نجهله حتى من الشاهد فضلا عن جهل الغيب كله لامتناه بالقياس إلى ما نعلمه وهو شديد التناهي. توهم ما نعلمه مطابق للحقيقة في ذاتها تأليه زائف للإنسان بزعم علمه محيطا. تلك هي عقلانية المعتزلة والفلاسفة وكل القدامى بمن فيهم أعظم فيلسوفين يونانيين أفلاطون وأرسطو.

ومن يفهم هذه الحقيقة يدكر عمق ما قاله ابن تيمية شرحا لعبارة “من تمنطق فقد تزندق” التي تبدو نفيا للعقلانية وهي في الحقيقة ليست نفيا للعقلانية بل نفي لتوهم قوانين المنطق القديم مطابقة لقوانين الوجود. فهو لم ينقد المنطق كمنطق بل للظن أنه منطق الوجود وليس منطق نوع من الكلام عليه

صحيح أن الكلام على الوجود يحتاج إلى منطق ما مثل الكلام على الله يحتاج إلى “انتروبومورفية” ما المنطق “لوجيكومورفية” ضرورية للكلام على الوجود ضرورة الانتروبومورفية للكلام على الله. لكن الانثروبومورفية تحتاج إلى احتزاز ليس كمثله شيء و”اللوجيكومورقية” تحتاج إلى احتراز ليس كمثله شيء.

قياس الله على الإنسان في كلامنا عليه وقياس الوجود على المنطق في كلام عليه من نفس الطبيعة: لا بد من عدم نسيان الفارق بين المقيس والمقيس عليه. فالله لا يقاس على الإنسان والوجود لا يقاس على المنطق. لكن ذلك من ضرورات التعامل مع الغيب التي تقبل بشرط الاحترازين الديني والفلسفي.

فالاحتراز الدين جاء في القرآن بشكل “ليس كمثله شيء” رغم تحريف ابن عربي لظنه أن من ينفى عنه المثيل هو المثيل أي إن الإنسان مثل الله ولا مثيل له. والاحتراز الفلسفي هو المقابلة بين علم الإنسان النسبي وعلم الله لمحيط. وهو أصل الخلاص من بنظرية المعرفة المطابقة.

وبذلك يتبين أن من كان يعتقد أنه ظلامي وضد العقل هم العقلاء بحق في المعرفتين الدينية والفلسفية لأنهم ميزوا بين المقيس والمقيس عليه ولم يطلقوا مقايسة دينية بين الله والإنسان كما توهم من ظن أن ما تقتضيه حاجة الإنسان للكلام على الله قيسا على الإنسان دليل تماثل حقيقي بينهما.

وحذار من توهم أن دعاوى التنزيه المعتزلي أو تعطيل الصفات تحرر من هذا الوهم. ذلك أنهم إن فعلوا بحق ينبغي أن يصلوا إلى أن الله هو العدم. لذلك فهم يتوهمون أن الابقاء بعض الصفات دون ما كل ما ورد في القران منها يحقق وهمهم فما أبقوه على أساس قيس الغائب على الشاهد مثل ما نزهوا عنه الله.

فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود هي بدورها ذات جوارح في الإنسان ولا يمكن تصورها من دونها فنبقى عليها وننفي اليد والاستواء. إذا كانت كلها مستمدة من قيس الغائب على الشاهد فكلها كما قال ابن تيمية خاضعة لنفس الشروط أعين قيس الله على الإنسان بشرط ليس كمثله شيء.

ومن ثم فالتنزيه لا يختلف عن التجسيم إذا تصور صاحبه أن ما يقوله عن الله علم به ذاته وصفاته وليس مجرد تصوره بالقياس إلى الإنسان “انثروبومورفية” وهو بنحو ما خلق لصورة الله في ضمير المتصور ولا علاقة له بحقيقة ذات الله التي هي الغيب المطلق. ومثل ذلك يقال عن قياس الوجود على المنطق.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي