إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – الفصل الرابع

**** إشارات القرآن ما أمر به وما نهى عنه لفهمها الفصل الرابع

والآن لا بد من حسم مسألة تحررنا من الفتنتين الكبرى والصغرى. والتحرر من الصغرى أيسر لأنها عمت البشرية كلها، ومن ثم فالتحرر منها ليس مرتهنا بنا وحدنا. فالجميع عون لنا عليها، لأن البشرية اليوم بدأت تفهم أنها صارت عبيد بعدي دين العدل معدنه وخواره، وأولهم الأمريكان كما هو بين. لكن الفتنة الكبرى ما تزال خاصة بنا، وهي أكبر فيروس مدمر للأمة الإسلامية، قصدت قضية الوساطة والوصية التي يستمد منها التشيع وتوظيفاته الحرب على الإسلام منذ نشأته إلى اليوم. وقبل أن أتكلم في خرافة تأسيسه على حديث الغدير، فلأبدأ بالأمور التي لا جدال فيها قرآنيا وتاريخيا.

وسأبدأ بالتاريخي قبل القرآني لأن التاريخي احداث لا يكاد أحد يصدق في العناصر الخمسة التي تعتبر منافية لأساس القول بالوساطة والوصاية: 1. أن القرآن نزل على محمد 2. أنه هو الذي ربى وحكم 3. أن أبا بكر وحد الجزيرة العربية 4. أن عمر أسس التاريخ الهجري 5. أن عثمان وحد القرآن المدون والمحفوظ فهذه العناصر الخمسة التي لا يمكن تصور الإسلام موجودا بدونها فضلا عن أن يكون باقيا إلى اليوم من دونها. فالرسالة هي القرآن وفيها المشروع الإسلامي الكوني كله. وعمل الرسول تربية وحكما هو السنة ولا يزال جله بين أيدينا. وتوحيد الجزيرة رمزه هزيمة المرتدين. والتاريخ الهجري أسسه عمر. وتوحيد نص القرآن بجمع ما توفر من المكتوب والمحفوظ وبشهادة أكبر علمائه يعود لعثمان. والرسالة بذلك صارت ذات مؤسسات شبه تامة مشروعا وتطبيقا في التربية والحكم ووحدة جغرافيا وتأسيسا تاريخيا وتوحيدا للمرجعية. كل الموقف التأويلي أو مقومات الظرفية التأويلية حسمت ولم يعد تغييرها ممكنا. لو كان لحديث الغدير دلالة سياسية لكان استعمل حجة يوم اختلف الناس عمن يخلف الرسول في الحكم ولما قاسوه عمن استخلفه على الصلاة بحجة القادر على الأكثر أقدر على الاقل. ما استعمل للحسم كان إما العودة إلى القبلية (منا أمير ومنكم أمير) أو حديث آخر له دلالة سياسية وهو حديث الإمارة من قريش. لا أحد احتج بحديث الغدير، إذ حتى من فكر في علي لم يؤسسه رأيه عليه، بل على القرابة لأنه من قريش أولا، ولأنه من أقرب الناس إلى الرسول بالقبيلة وبالنسب (زوج ابنته). لكن الأهم من ذلك كله حديث الغدير نفسه: ففيه كما ينبغي أن يفهم وصية ليس بعلي حاكما، ولكن بعلي واسرة الرسول لحمايتها من بعده.

وفي الوصية ترتيب بين وصية بالقرآن حتى لا يخالفه أحد وحتى لا يقدم عليه شيء بما في ذلك الوصية بعلي واسرة النبي -وهو خلاف مطلق مع الفهم الشيعي-يليه وصية بموالاة علي والأسرة وليس بالوساطة والوصية التي فسر به مفهوم المولى في الحديث. والدليل هو أن الأحداث الخمسة ليس لعلي فيها دور. فلا علاقة لعلي بالوحي ولا بالسنة، والمعلوم أن دور عمر كمستشار حتى في بعض قرارات الرسول لا يشكك فيه أحد، ولا أحد يدعي أن لعلي دور في ذلك. كما أنه ليس لنا علم بأن عليا قاد أهم معارك التأسيس لا في حياة الرسول ولا بعده، وخاصة في المعارك الجوهرية الثلاثة المؤسسة للمكان والزمان والمرجعية. وعندي أن ما قاله الرسول يوم فتح مكة وما كلف به معاوية بعد ذلك، يدلان بصورة واضحة أن النبي كانت له فراسة على أن دولة الإسلام لن ينقذها إلا أقوى عصبية في قريش أي عصبية أبي سفيان وذريته، ذلك أنه لا يجهل أن ثورة الاسلام في التربية والحكم كما ربى عليها الصحابة الكبار، ما تزال هشة. وهشاشتها هي أنها لم تصبح بعد ذات مؤسسات متينة: هي متعينة في نص يعسر اكتشاف ما فيه من رؤية ثورية فضلا عن استيعابها وتحويلها إلى مؤسسات وفي قلة من الأبطال هم من ذكرت أي الخلفاء الثلاثة الأول الذي ثبتوا المكان والزمان والمرجعية وكانوا يمارسون الرؤية عمليا دون تنظير. كيف ذلك؟

ولأبدأ بأبي يكر. من يقرأ القرآن، يعلم أن دولته ليست محددة المكان، بل هي تعتبر المعمورة كلها تابعة لها. فكان إذن لا بد من تحديد مركز أرضي لدولة الإسلام وذلك ما حققه أبو بكر لما خاض حرب الردة لتوحيد الجزيرة، ثم بعدها شرح في الفتح لتحقيق رؤية الإسلام الكونية. وهو أمر مركزي تردد فيه حتى الفاروق، لكن أبا بكر لم يتردد لأنه كان الأعلم بالمشروع. ولما ثبت أبو بكر المركز الجغرافي للمشروع، كان لا بد من تثبيت المركز الزماني للمشروع ويكون من جنسه: فانتشار المشروع في المعمورة رمزه الهجرة الدائمة للإسلام بوصفه فاتحا وليس مستجيرا بغيره. وهذا يعني تأسيسا لتحقيب جديد للتاريخ الإٌنساني (الفاروق). فاكتمل تركيز المشروع الكوني أي التعين المكاني والتعين الزماني لقلب الرسالة في الأرض (الجزيرة والهجرة إلى المدينة مع الفصل بين مركز الرؤية القديمة-مكة-ومركز الرؤية الجديدة- المدينة). وختم عثمان بأصل المراكز: تثبيت القرآن.

خمس مؤسسات ثابتة لم يمسسها أدنى تغير يمس الجوهر مهما اختلفت التأويلات: 1. القرآن مشروع لتوحيد الإنسانية 2. السنة عينة من تربية بلا وساطة وحكم بلا وصاية 3. وحدة المركز الجغرافي 4. وحدة المركز التاريخي 5. وحدة المركز المرجعي. فاكتملت أركان المشروع.

وهذا هو القصد بالمرحلة المثال الأعلى وليس شيئا آخر، والأمور التأسيسية لا تتكرر، وثباتها لا يعني أن اللاحق دون السابق، لأنها تخضع لما سماه برقلس في كلامه على فاعلية المبادئ بأن الاعم يبقى دائما مؤثرا في الأخص الذي يزيده قوة لأنه قوة جديدة تتضمن قوة ما تقدم عليها لانبنائها عليها.

مثال ذلك أني عندما أعرف الإنسان بكونه حيوانا ناطقا، فلا يمكن تصور “ناطقا” من دون “حيوانا”. لكن الناطق يضيف إلى ما يستمده من الحيوانية ما تختص به الناطقية التي هي حيوانية تتميز بما يضيفه النطق للحياة. وهذا هو ما كان منتظرا من المسلمين بعد أن اكتملت صياغة المؤسسات القاعدية. لكن ما حدث أمران هددا المؤسسات القاعدية: 1. الأول هو جرثومة النكوص إلى سلطة روحية وسيطة باسم حديث الغدير وسلطة سياسية وصية بنفس الحجة وتلك هي بداية الفتنة الكبرى. 2. والثاني جرثومة النكوص إلى القانون الطبيعي أو سلطة الحكم بالتغلب التي تستتبع سلطة التربية فتكون في الأفعال مثل الأولى. ما يعني أن دولة الإسلام صارت مهددة بنكوصين إلى التقاليد الفارسية البيزنطية والتقاليد القبلية العربية، وكلا النوعين من التقاليد هما ما كان الإسلام في قطيعة معهما في بعدي السياسة، أي في التربية من دون وساطة وفي الحكم من دون وصاية. والثاني أرحم: لم يغير المؤسسات القاعدية في الأقوال. لم يغير المشروع ولم يغير تجربة الرسول ولم يغير المركز الجغرافي إلا سياسيا ولم يغير المركز الزماني ولم يغير المرجعية في الاقوال، لكنه جعل الشرعية شكلا إسلاما وواقعا جاهلية وهو معنى الملك العضوض. وصار النكوص إلى النموذج الفارسي والبيزنطي يعتبر التربية والحكم ثيوقراطيين عكس القرآن. وظلت الحال كذلك إلى أن فتتت الجغرافيا بعد الاستعمار على أساس اثني في ما يسمى بالدول القومية الحديثة وهي كذبة لأن الاستعمار لم يقتطع المحميات بمعيار القوميات بل بمعيار ما يحتاج إليه في الجيوسياسة وفي البحث عن مصادر الثروة والطاقة بحيث جعل كل محمية “كوكتال مولوتوف” كما نراها الآن.

وجاء دور الفتنة الثانية أو الفتنة الصغرى للقضاء على الرابط الوحيد المتبقي بين المسلمين بعد أن قضوا على وحدة الجغرافيا ووحدة التاريخ. لكن كما أسلفت هذه الفتنة كونية ولا تقتصر على المسلمين، ومن ثم فهي لن تعمر كثيرا بعد أن أصبحت الدول الكبرى تخاف من تدخل الدول في الخيارات الروحية. هدف محاولاتي مضاعف: 1. الوجه الاول منه هو الانطلاق من لحظة اكتمال بناء المؤسسات القاعدية إلى الآن للنظر في ما أضر بها من تأويلات لم تبق منها إلا الأقوال مع معارضتها التامة في الافعال. 2. الوجه الثاني العودة من اكتمالها في الممارسة دون صوغها ما يترتب عليها في التنظير. ذلك أن هذا الوجه الثاني هو الذي لو حصل لحال دون الوجه الاول. ومعنى ذلك أن تعين المؤسسات القاعدية في فعل فريد قام به شخص فريد-الرسالة والسنة وتوحيد الجزيرة وتوحيد التاريخ وتوحيد المصحف-كل ذلك لم يتحول إلى مؤسسات ذات فاعلية موضوعية متعالية على الأعيان.

ما معنى شخص فريد؟ المشروع القرآني كان فهمه العميق حكرا على الرسول. السنة في التربية والحكم فهمهما كان حكرا على ابي بكر والفاروق وعثمان. أبوبكر أكثرهم فهما بدأ بأساس الدولة الأول أو المركز المكاني، وبعد الفاروق بالمركز الزماني والأخير، اعتقد أكثرهم حنكة استدرك عليهم توحيد المرجعية. ولذلك فقد كان طبيعيا أن يكون هو المستهدف من دهاة المؤامرة الشعوبية اليهودية على الإسلام أو الفتنة الكبرى. وقد كان علي وأبنائه ضحاياها ولا يزال كل السنة العرب ضحاياها، لأنه لا يوجد خيار ثالث بين القول بالتشيع والتشكك في القرآن أو القول بالقرآن والتشكيك في تأويل حديث الغدير. وختاما لهذا الفصل المعقد أقول إن حديث الغدير صحيح، لكن تأويله هو أن الرسول كان يخاف على أسرته ومنها علي -الذي كان سيستضعف مثل كل أسرة الرسول، لأن قوة هذه الاسرة تعتمد على قوة الرسول وليس لها عصبية قوية قد تحميها من القبلية العربية: هي وصية لحمايتهم وليس لتوليتهم على المسلمين.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي