إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – الفصل الخامس

**** إشارات القرآن ما أمر به وما نهى عنه لفهمها الفصل الخامس

ولأني واثق بأن القرآن في شكله الحالي -كما يضبطه المصحف العثماني-لا تشوبه شائبة، وأن ما يبدو عليه من “فوضى” دليل صحة وليس دليل تدخل يد غيرت فيه أو قدمت أو أخرت. فلو حصل لكان ذا نظام لا يحافظ على ما ينتج عن النسقية التي يصل إليها كل من يقرأه بما ينصح به القرآن نفسه ليكتشف نظامه. ويشبه الامر نظام العالم. فلا شيء أشد فوضى من العالم بالنسبة إلى من لم يكتشف نظامه بعد أن تقدمت العلوم التي بدأت بالتدريج تترقى لتصل إلى اكتشاف الكثير من علامات النظام فيه. وقد بدأت بأبرز مجال يتجلى فيه نظامه أعني علم الهيأة الذي أسسته الحضارات القديمة وبلغ شبه تمه مع اليونان. وأقول شبه تمه لأنه لا يوجد علم إنساني تام. التام هو أنهم اكتشفوا أن نظام السماء لا يمكن الاكتفاء فيه بالأرصاد، بل لا بد من ابداع نظام رياضي يمكن من وصل عناصره وصلا يجعل ما يجري في السماء قابلا للحساب الدقيق، وهو ما تم مع بطليموس حتى لو بني على فرضية تبين خطؤها. ولما عدلت بأن جعلت الشمس مركزا بدلا من الارض أصبح أقرب إلى ما نحن عليه الآن في صلتنا بالسماء مع فارق كبير وهو أن العالم تواسع إلى حد لم يدر بخلد بطليموس ولا كوبرنكوس ولا ما بينهما من مجالات في حضارتنا لتجاوز الأول والاعداد للثاني. المهم أن العالم ذو نظام صارم وراء الفوضى الظاهرة.

القرآن عندي هو في هذه الوضعية. لم نكتشف نظامه بعد واعتقد أن المسلمين لم يطرحوا هذا السؤال. فحتى الغزالي وهو أكثر علمائنا فهما لمعنى النظام المنطقي في الفكر القديم رغم أنه لم يكتب في الرياضيات لما بحث في القرآن اكتفى بمفاضلة بين آياته من منطلق هموم الفقهية والصوفية وربما الجمالية.

صحيح أن نظام السماء عند القدامى وخاصة مصر وبابل كان البحث فيه لعلل نفعية هي النظام الزراعي خاصة وطبعا كان ذلك مخلوطا بهموم دينية وميتافيزيقية لكنه لم يخل من الصوغ الرياضي ولا زلنا نستعمل الكثير من فرضياتهم مثل القاعدة الستينية وعلاقتها بالمثلث متساوي الأضلاع وبعض الحلول الرياضية. وما يعنيني بيانه هو أن القرآن لم يتعامل معه بمنطق الافتراض العلمي حول بنيته الخفية والعميقة التي تمكن من اكتشاف نظامه ونسقه الذي يمكن من رد ما يبدو عليه من فوضى وتكرار والتقاء شبه اتفاقي بين القضايا التي يبحث فيها في نفس السورة أو في نفس النوع من السور وكأنه بلا منطق ونظام. وما زاد هذه الفوضى الظاهرية طغيانا هو تفتيت القرآن كل علم من علوم الملية الغائية الخمسة يقتطع منه ما يعنيه ولا يصله بالباقي حتى بلغ الأمر إلى قراءات من جنس الاعجاز العلمي أو من جنس آخر بدعة تسمى التفسير الموضوعي الذي يجعل القرآن “صندوق” عتاد لأصحاب صنعة كل في مجاله. ثم هجم عليه “الدعاة” وخاصة “الجدد” منهم أو تجار الفضائيات، فأصبح القرآن ماعون صنعة الحكم الشعبية والوعظ والإرشاد، ثم أصبح اسم “العلماء” بديلا من اسم رواة الملح والأشعار والأحاديث والخرافات وهلم جرا مما يتعلق بالكلام في ما لا يمكن الاحتكام فيه لما أمر القرآن بالاحتكام إليه.

وقد حاولت جمع ذلك كله في قراءة معنى {صم بكم عمي فهم لا يعقلون}. ذلك أننا لو قرأنا الظاهرات الطبيعية بحواسنا لبقينا حقا صما بكما عميا لا نعقل. والقرآن يخاطب في الظاهر وفي مستوى بنيته السطحية حواسنا خاصة باللسان الطبيعي وباللغة المسرحية الدرامية وعقولنا ذات الصلة بها بما يناسبها. لكن ذلك مثل قراءة الطبيعة بالحواس وبالعقل المؤسس عليها لا يمكن من تجاوز الفلك الغفل والفيزياء الغفلة ولا يسمح بإدراك بنية السماء والطبيعة كما تحقق ذلك لاحقا عندما فهم العلماء أن ذلك مستحيل من دون نوعي التقدير الذهني الخالص (الرياضيات العالية) والمطبق (الرياضيات التطبيقية). وبهذا المعنى فهو إعادة وصل مع العلوم القديمة التي توقف استعمالها في الكتب الدينية -التوراة والأناجيل- لعدم اعتمادها على النظام الرياضي التجريبي في الخلق والسياسي الخلقي في الأمر واقتصارها على خرافات نسجت حول تاريخ قبيلة بدائية هي يهود الشرق وورثتها في الأناجيل: وليقرأهما من يشك. ولما كان المفسرون الأول عديمي الثقافة العلمية التي كانت حاصلة في ذلك الوقت عند اليونان مثلا فإنهم اكتفوا بالإسرائيليات والجاهليات من التمثلات البدائية وأصبح التفسير لا يتجاوز الأثر بهذا المعنى ومعه التعاليق اللسانية التي يمكن أن تفيد الشرح اللغوي لكنها لا تمس بنية القرآن العميقة.

لو كان الرياضيون الكبار والأدباء الكبار أي الذين يبدعون معاني لا دلالة لها قبل أن تصبح موجودة بفضل إبداعهم، لاستحال تجاوز الرياضيات الطبيعيات والأدبيات التاريخيات. الفرق بين الأدب الأسمى والتاريخ وبين الرياضيات الأسمى والطبيعيات هو الفرق بين الدلالة والمعنى. لذلك فالديني والفلسفي لا يفهمهما من لا يفهم الأدبي الأسمى والرياضي الأسمى. والقرآن ديني وفلسفي وأدبي أسمى ورياضي أسمى وهو في آن رسم أسمى وموسيقي أسمى إذا أخذنا عبارته اللسانية وهو دراما أسمى وكوريوغرافيا أسمى هو أصل كل أبداع يخرج من عالم “الواقع” إلى عالم “أصل كل واقع”. وعالم أصل كل واقع هو الوحيد الذي يمكن أن يسع الإنسان: فالإنسان لا يتوقف عند حد في تجاوز “الواقع” حتى بالنسبة إلى أقل الناس قدرة على التخيل. لكن التخيل من جنس الأحلام بعضه دال على فساد المزاج وبعضه دال على سمو الروح. ورؤى الأرواح السامية هي دلالة الاستخلاف وشرط التعمير.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي