إشارات القرآن، ما أمر به وما نهى عنه لفهمها – الفصل الثاني

**** إشارات القرآن ما أمر به وما نهى عنه لفهمها الفصل الثاني

شرحنا آيات الله في الآفاق أو في الخلق الذي أشار القرآن إلى أنه من طبيعة رياضية، تعلم بالملاحظة والتجربة، دون أن يتضمن القرآن هذه القوانين بأعيانها. فما إشارة القرآن إلى الأمر؟ “ما في أنفسهم” لها دلالتان: ما في الذوات عامة طبيعيها وغير طبيعيها، أي كيانا الإنسان البدني والروحي. ولا يوجد خلاف حول كون الكيان البدني للإنسان أو العضوي خاضع لقوانين الخلق والطبيعة. الإشكال في الكيان الروحي هل هو من جنسه وتابع له؟ أم إن له طبيعة ثانية؟ المقابلة بين الخلق والامر تجعله مختلفا. فالإنسان طبعا مخلوق ويخضع للضرورة الطبيعية، لكنه مأمور كذلك وهو مجال الحرية. وهذا هو مناط الإشكال الديني والخلقي. وهو إشكال فلسفي كذلك. ويحاول البعض فصل الخلقي عن الديني لتوهم الإشكال الخلقي وحتى يكون فلسفيا لا بد أن يقطع مع الدين. وهو تناقض لأنك إذا اخرجت الدين من الإشكالية أبقيت الطبيعة، والطبيعة لا تستثني الإنسان من قانونها أو الضرورة الكلية. استثناء شيء ما من الإنسان من حكم الضرورة الطبيعية مهما تحايلنا، يبقى نظرة دينية تعتبر الطبيعة نفسها خاضعة لما يتعالى عليها وفي ذلك تقديم للحرية على الضرورة. وحتى الفلسفة القديمة، وخاصة أكبر رؤيتيها الأفلاطونية والأرسطية، كلتاهما اضطرتا لمثل هذه الرؤية الدينية. ولعل أهم نص صريح في ذلك المقالة العاشرة من شرائع أفلاطون: فهو يضع النوس فوق الطبيعة لأن الطبيعة من دونها ليس فيها خيار بين خير وشر، ولا مفاضلة في مجريات الطبيعة ما له غاية تغلو عليه وما ليس له غاية، فلا يبقى فيها إلا قانون صراع القوى ولا يحد بين قوتين إلا نسبة القوة بينهما. وهذا أساس مقابلته بين كاليكلاس وسقراط في فهم النظام السياسي الخاضع للقانون الطبيعي والنظام السياسي الخاضع للقانون الخلقي. وأفلأطون يعمم ذلك حتى على النظام الطبيعي الذي هو خلقي بالصورة الرياضية، وما يشد عن الخلقي فيه راجع إلى ما في المادة من شر دون تصوير غائي أو عقلي (النوس). وحل أرسطو أوضح وأكثر صراحة بأن الغاية، حتى في الطبيعة، متقدمة على الضرورة. ولذلك فهو يعتبر القوانين الطبيعية خاضعة لمبدأ “الضرورة الشرطية” بمعنى أنها “صناعة” أدواتها ضرورية، لكنها تعمل بمقتضى ما تقتضيه الغاية. وفي مثال البايولوجيا، الوظيفة هي التي تحدد خاصيات العضو وليس العكس. ولذلك فهو أول من اعتبر التطور في العضويات ناتج عن “شبه” تجريب بايولوجي لحلول عضوية متطورة من أجل تحقيق نفس الوظيفة بحسب شروط عيش الكائنات الحية وتكيفها معها. وهو بهذا المعنى الاب الحقيقي لنظرية التطور في البايولوجيا ولم يقل بثبات الأنواع من حيث الأعضاء، بل من حيث الوظائف فحسب. وما لم يبرهن التطوريون الجدد أن المكتسب الوظيفي يمكن أن يصبح موروثا، لا يمكن تجاوز أرسطو الذي لا ينفي أن يكون المكتسب العضوي موروثا، إذ يمكن بيان العلاقة بين الجنين والبويضة والحيوان المنوي من اتصال كمي قابل للإثبات مع عدم تمكننا من إثبات ما بين الوظائف من تواصل كيفي. فهل للذكاء مثلا علاقة له بحجم البدن الإنساني؟ ويمكن ملاحظة علاقة حجم بدن الأبوين في علاقة بحجم بدن الأبناء لكن يعسر أن نثبت علاقة بين “ذكاء” الابوين “وذكاء” الابناء. فإذا كان اليابانيون الحاليون أطول قامة من اليابانيين القدامى لتحسن الغذاء، فهل هذا يعني أنهم أذكى مثلا؟ ففي كل اختصاص يمكن ان نقول إن ما لدى أي متعلم في الثانوية من معلومات أكثر مما كان لدى أفلاطون مثلا. لكن كم المعلومات لا يجعله أقدر من أفلاطون على فهم إشكاليات الفلسفة والرؤية الرياضية للوجود الطبيعي والسياسية والخلقية للوجود التاريخي. وهذا هو المعنى الثاني من “وفي أنفسهم”. وهذا الـ”وفي أنفسهم” هو ما يتعلق به الامر. وهو في القرآن متعلق بالسنن التي لا تتبدل ولا تتحول. وهي سياسية وخلقية وليس طبيعية. ولما كانت سياسية وخلقية وليست طبيعية فهي سنن ما يصحل بمقتضى قانون الحرية وليس بمقتضى قانون الضرورة: المأمور هو المكلف المسؤول. وهذا النوع من سنن العالم التاريخي من الشاهد يخضع سنن سياسية خلقية تحكم الحرية، وهو الأمر في عالم الشهادة بخلاف النوع الأول من قوانين العالم الطبيعي من الشاهد الذي يخضع لقوانين رياضية تحكم الضرورة وهو الخلق في عالم الشهادة. وهما المجال الوحيد القابل لعلم إنساني متطور وغير محيط. وكلى العلمين الطبيعي والتاريخي متطوران ولا يمكن للإنسان أن يجدهما إلى في الآفاق والانفس بالبحث العلمي الحقيقي، وليس بشرح نصوص القرآن التي توجهه إليها بصورة عامة ولا تحتوي على أي قانون أو سنة محددة يكفيها شرح كلمات القرآن لجعلها قانونا مباشرة أو ليسبق بها اكتشافها العلمي فيهما.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي