أنظمة الحكم الخلدونية وداء تاريخنا العضال وشروط علاجه



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



1-لوأخضعنا تصنيف ابن خلدون لأنظمة الحكم انطلاقا من مبادئ علمه الذي لم يطبقه بنفس النسقية التي اعتمدها في تأسيسه النظري لكان النسق التالي -الذي يمثل تجاوزا ثوريا لفلسفة السياسة اليونانية (بصنفيها الأفلاطوني والأرسطي)-.
2-فهو يقابل بين الحكم الطبيعي والحكم المتجاوز للطبيعي.
ويقسم المتجاوز إلى العقلي والديني.
وقسم العقلي قسمة ثنائية لكنه لم يقسم الديني.
3-لذلك جاء تقسيمه مخالفا لمبدأ التقسيم الذي توخاه ولعله خاف أن يقسم الديني مثل القسمة التي طبقها على العقلي.
فلنجازف ولنذهب إلى الغاية. فنضيف إلى تصنيف ابن خلدون ما كان ينبغي أن يكون فيه بمقتضى مبادئ علمه.
4-ذلك أننا إذا لم نفعل لن نفهم التاريخ السياسي للحضارة العربية الإسلامية ويصبح علمه فاقدا في آن للكلية (لا يشمل كل الأنظمة) والخصوصية.
5-فالحكم الطبيعي ليس حكما بالعقل ولا بالدين ومن ثم فهو ليس بعد حكما إنسانيا لأنه مقصورعلى القوة الطبيعية العمياء لخلوه من وزع الوزع.
6-لكنه يبقى قائما في كل الانظمة الموالية لأن نظام الحكم حتى بوزع الوزع يحتاج إلى القوة بسبب وجود القوة العمياء في الجماعة وضرورة لجمها.
7-والحكم الطبيعي يعتمد على قوة وازعه للغير -غير موزوع إلا بما هو من جنسه- ما يجعل السياسة تتحول إلى حرب دائمة: نظام الجاهلية العربية مثلا.
8-والنظام لا يمكن أن يدوم لذلك تنتقل البشرية من الجاهلية التي يحكمها صراع القوى الأعمى إلى نظام يجعل وازع القوة موزوعا بما يديمه. ومن ثم فلا قيام للدول بالقوة وحدها لا بد من الشرعية : المتغلب لا شرعية له مهما تحايل فقهاء السلطان.
9-ووازع الوازع الذي ليس من جنس القوة ينقلها من الصراع الطبيعي الذي يناقض الغاية من وجود الجماعة أي التعاون لسد الحاجات إلى سلم مدنية ما.
10-ووازع الوازع هذا يقسمه ابن خلدون إلى صنفين:
أحدهما مقصور على المصالح الدنيوية وهو العقل
والثاني يضيف إليها المصالح الأخروية وهو الدين.
11-وزع الوزع العقلي صنفان: أولهما الحاكم الراعي الذي يحافظ على المحكومين لمصلحته كحاكم لكأنهم مواشي دون أن يكون للمحكومين دور الطرف المتعاقد معه.
12-والثاني وهو العقلي التعاقدي: يكون الحكم لصالح الحاكم والمحكوم في آن بتعاقد ضمني وتكون طاعة المحكوم للحاكم مشروطة بتحقيق مصالحه الدنيوية : لكأن الأمر يتعلق بطاعة متبادلة الحاكم يطيع حاجات المحكوم والمحكوم يطيع قانون الحاكم العادل.
13-ولما تكلم على وزع الوزع الديني لم يقم بنفس القسمة إما لانه لا يسلم بها أو لأنه لم يجرؤ على بيان أن وزع الوزع الديني هو بدوره صنفان.
14-فوزع الوزع الديني هو أيضا مضاعف. فقد يكون لصالح الطبقة الدينية وحدها والبقية رعية كالمواشي تستغل من الطبقة الدينية تماما كما في حالة الوزع العقلي الأول أو تعاقديا لصالح الحاكم والمحكوم بضمانة إلهية.
15-الأديان ليست كلها متماثلة: بعضها يستعبد المؤمنين أرزاقهم وأعراضهم وبعضها يحررهم.
لم يقم بهذه القسمة فلم يستطع تفسير الفرق بين نظرية الحكم السنية ونظرية الحكم الشيعية: مبدأ الوصية غير مبدأ الاختيار للحاكم الشرعي.
16-فـمبدأ الوصية يعني أن الحاكم يحكم بمقتضى الحق الإلهي في الحكم ولا دخل للمؤمنين في اختياره ولا في أحكامه فيكونون محكومين دون دور في اختيار الحاكم وليس لهم حق استعمال مبدأ لا طاعة في معصية الله لأن الحاكم يدعي العصمة.
17-لذلك فالمبدأ السني “لا طاعة في معصية الله” لا معنى له في النظرية القائلة بالوصية لأنه يجعل المحكوم هو المحدد لشرعية الحاكم في الغاية : إذ هو يقضي باحترام الحاكم لهذا المبدأ فيطاع أو بعدم احترامه فلا يطاع.
18-لا بد إذن من قسمة وزع الوزع بمقتضى الدين نفس القسمة لوزع الوزع بمقتضى العقل فيكون الديني صنفين للحاكم أو له وللمحكوم معا. فتكون الأنظمة بذلك أربعة بسيطة وأصلها جامع مع الطبيعي.
19-والطبيعي وحده لا يدوم وإذن فهو يموت بمقتضى مبدئه لتنافيه مع غاية وجود الجماعة: الحرب الدائمة لا معنى لها لأنها صراع على مصالح لا تتحقق إلا بالسلـم.
20-فعندما تغير قبيلة على قبيلة أخرى أو دولة على دولة أخرى فهي تغزوها لاخذ حصيلة عملها أو أرضها أو نسلها كالسبايا اي ما تكون الجماعة المغزوة قد حققته. وكل ذلك وجوده مشروط بالسلم.
21-الحرب الدائمة ممتنعة بمقتضى هذا التناقض. فتبقى الأنظمة الأربعة البسيطة: اثنان عقليان واثنان دينيان وفيها جميعا يكون الطبيعي أرضيتها.
22-والموجود الحقيقي في الغاية عند اكتمال التكوينية السياسية للنظام المستقر هو جمعها كلها في مستويات مختلفة: العقليان والدينيان لوزع الوزع أيا كانت طبيعة النظام السياسي عند بلوغ المرحلة السوية.
23-والعلة بينة: الجماعة مؤلفة من مستويات بعضها يقاد بالعقل بمرحلتيه وبعضها يقاد بالدين بمرحلتيه والبعض يبقى طبيعيا لا يقاد إلا بالقوة.
والنظام العام القانوني والأمني لا بد فيه من ذلك كله.
24-وهذا يصبح في السياسة الداخلية (في نفس الجماعة) وفي السياسة الدولية (بين الجماعات) وهو أكثر بينونة في السياسة الدولية: ما تزال طبيعية.
25-والسؤال: ما النظام الذي يقول به الإسلام كما تحدد في القرآن الكريم والذي هو أقرب إلى التصور السني والديموقراطي منه إلى التصور الشيعي الذي هو تصور ثيوقراطي بمنطق الحق الإلهي.
26-لما تقرأ الآية 38 من الشورى وتحرر فهمها من التحريف الفقهي تجد أن القرآن الكريم يختار للأمة نظاما جمهوريا ديموقراطيا بدون أدنى لبس.
27-وهو يؤطر هذا النظام بتحديد طبيعة الوزع وطبيعة ما بسببه يحتاج الناس إلى الوزع: فالبداية هي الاستجابة إلى الرب والنهاية هي سياسة الرزق.
28-أما النظام السياسي فهو
أمر+هم = أمر الجماعة = راس بوبليكا (باللسان اللاتيني)
شورى+بينهم = شورى الجماعة = ديموقراطية (باللسان اليوناني).
29-ولا يتنافي ذلك مع بقاء رمزية رئاسة الدولة التي يمكن أن تكون ملكية دستورية إذا ارتضت الجماعة ذلك (مثل الخلافة من قريش).
فالمهم في النظام السياسي هو تسيير الجماعة لشأنيها الروحي (بداية التأطير – الاستجابة إلى الرب) ولشأنها المادي (غاية التأطير – الانفاق من الرزق).
30-وبداية التأطير الاستجابة إلى الرب هي وازع الوازع. والحكم هو الوزاع. والانفاق من الرزق هو ما بسببه تحتاج الجماعات إلى الوزع الموزوع.
31-والوزع الموزوع هو الحكم الراشد:
وتلك هي علة المثال الأعلى في الوعي الإسلامي لمرحلة الخلافة الراشدة.
فالحكم وازع موزوع بالعقل والنقل.
32-وهذا المبدأ لا يمكن أن يستثنى منه أي نظام: فحتى ما يسمى بالعلمانية وأرقاها حاليا موجود في أمريكا وألمانيا وازع موزوع وهو متردد بين بالعقل والنقل في الوعي واللاوعي الجمعيين.
33-وذلك ما يغفل عنه التحديثيون السطحيون: فالنخبة الحاكمة موزوعة بالقانون وهو عقلي.لكن الشعب موزوع به وبشيء آخر أعمق منه: الأخلاق العامة وثقافة الشرعية.
34-وهذه الأخلاق العامة أو الموضوعية هي الثقافة الديموقراطية أي التربية القيمية التي هي في الغاية معتقدات دينية وفلسفية ربي عليها الشعب.
35-فما يجعل امتناع تصور انقلاب عسكري في ألمانيا أو في أمريكا بالطريقة المصرية مثلا ليس القانون بل الأخلاق العامة التي هي موقف الشعب.
36-ومثال من تاريخنا في العهد الراشدي أفصح من مثال امتناع الانقلاب العكسري في ألمانيا أو في أمريكا: كيف أمكن للفاروق أن يعزل خالدا؟
37-هل يمكن لخالد أن يقوم بانقلاب على الفاروق وهو القائد الفذ المنتصر والبعيد عن المدينة ؟ منطقيا كان ذلك ممكنا لو نظرنا للقضية بمنطق القوة. فما منعه؟
38-ليس أخلاقه وحدها بل علمه أن الجماعة ما كانت لتسمح له بذلك: فالجيش الذي معه يؤمن بالشرعية ولا يقبل عنها بديلا ومن ثم فأمر عمر مطاع حتما.
39-وذلك هو وزع الوزع الديني والعقلي في آن: حتى لو خامرت خالد فكرة عدم طاعة الخليفة (وسوسة الشيطان) فإن العقل والإيمان يحولان دون ذلك.
40-عقليا لا بد أن يحسب حظوظ النجاح في الانقلاب على عمر. ودينيا يعلم أن الجماعة تقدم الشرعية على القوة لأنها ربيت على أخلاق وثقافة قرآنية.
41-نأتي الآن إلى بيت القصيد: لم يكن الهدف تصحيح نظرية ابن خلدون. كان الهدف التمهيد لفهم ما يجري اليوم في الحكم لدى الأنظمة العربية كلها.
42-فالخاصية الجامعة لصنفي الأنظمة العربية -القبلية والعسكرية- هي الهشاشة التي تنتج عن عدم شرعيتها. وعدم شرعيتها تنتج عن عدم وزع الوازع.
43-فلا هي عقلية ولا هي دينية بل هي طبيعية.والحكم الطبيعي لا يبقى بذاته. بقاؤها ليس منها بل من حاميها الذي هو نظام المستعمر الذي نصبها.
44-ولهذا فهي أنظمة تحيا بالخوف مرتين: محكومة بالخوف على بقائها وحاكمة بإخافة شعبها. والعلة غياب الإطار الذي بينا في الآية 38 من الشورى.
45-فبدلا من الاستجابة للرب تستجيب للحامي أي للمستعمر وبدلا من الانفاق من الرزق تستحوذ عليه بأزلامها.فلا يكون الأمر أمر الشعب ولا شورى بينهم.
46-وحينئذ تفهم أن أي قوة مهما كانت ضئيلة يمكن أن تخض هذه الأنظمة المرتعشة التي تتصور أن الشعب الذي ثار يمكن أن يخضع للقوة مهما عتوا وتجبروا.
47-فلما تركهم الحامي بدأوا يشعرون بالورطة التي هم فيها لكنهم ما يزالون خائفين من الشعب وليسوا خائفين عليه: لذلك فموقفهم من سوريا فضحهم.
48-ولو لم أكن ممن لا يخشون في الحق لومة لائم لسمعت لبعض نصحاء السوء إذا عبروا عما اعتبروه دليل محبة لي مخوفيني بأني سأخسر الجميع. وخسران مثل ما يرونه ربحا هو عين الربح عندي.
49-فـجوابي أني سأربح الأمر الأهم: احترامي لنفسي.
أي احترام لنفسي يبقى إذا لم أصدق في تشخيص الداء الحقيقي الذي ينخر كيان السنة والأمة؟
50-فما لم نصلح هذا الخلل الذي بدأ منذ الفتنة الكبرى ولم تشرع الأمة في علاجه العلاج المناسب إلا في الثورة الأخيرة فإن مآلنا النكوص الجاهلية.
51-والفضل للشباب الثائر بجنسيه ذكورا وإناثا بالأقوال (الاجتهاد) والأفعال (الجهاد) أنه تصدى للداء الحقيقي الذي لم نخرج منه منذ 1400 سنة.
52-أما نصحاء السوء فهم الكداؤون الممثلون للداء الثاني الذي أصاب الأمة: فالأدب والفكر العربيين مثل السياسة العربية كلاهما أساسه التكدي والارتزاق ومعدن النفاق.
53-الحكام بالقوة يستحلون رزق الأمة والنخب تتكدى لديهم بمنافقتهم والتطبيل لهم: وهذا هو الداء الثاني.
ورئيس مدرسة الارتزاق والنفاق النخبوي في لبنان ودعي العلم بتاريخ الإسلام الفكري والسياسي.
54-كم رأيت في الجنادرية: إنهم أشبه بالجوعى يرتمون على فضلات الموائد بتفاصح وتناصح وتفاضح وتقابح يبين لك أن المثقفين افسد من السياسين.
55-لذلك فقد كانت آخر مرة حضرتها الأخيرة وقد بينت فيها موقفي من محاكمة الإخوان في غيابهم من أنذل وجوه الثقافة العربية الحالية التي تؤيد انقلاب السيسي.
بئس القوم.
56-مرضان مزمنان إذن: مرض البعدين الفعليين من كيان الدولة (الحكم والاقتصاد) ينتج عنهما مرضين أكثر ضررا منهما لأنهما يصيبان الروح والنفس.
57-ففساد الحكم أو الوجه الفعلي من وظائف الدولة يؤدي إلى فساد التربية وهو الوجه الرمزي من وظائف الدولة: وهما معا يمثلان صورة العمران.
58-وفساد الاقتصاد أي الوجه الفعلي من وظائف المجتمع يؤدي إلى فساد الثقافة وهو الوجه الرمزي من وظائف المجتمع: وهما معا يمثلان مادة العمران.
59-أمتنا مجتمعاتها فسدت صورة عمرانها (الحكم والتربية) ومادة عمرانها (الاقتصاد والثقافة) وهذا هو المرض العضال الذي ينبغي أن تعالجه الثورة.
60-وقد نذرت نفسي لعلاج هذه الأمراض الأربعة الناتجةعن تحريف المرجعيةالاسلامية في الانحطاطين الموروثين عن ماضينا وعن الاستعمار بما أستطيع.
61-ولما كنت مربيا فمجال فعلي محدد: شرح ما توصلت إليه من تحليل للأوضاع العربية الإسلامية باستعمال ما تعملته من الحضارة الحديثة ومن القرآن.
62-طبعا محاولة التخلص من الانحطاطين لاكتشاف التطابق بين القيم الكلية في الحضارتين ليست مما يعجب نخبتين تدعيان التأصيل والتحديث المزعومين.
63-لذلك فلا غرابة إذا تواطأ الصفان على الثورة وحالفا الثورة المضادة في النظامين القبلي والعسكري.
الأمة استيقظت والثورة ذاهبة إلى الغاية



يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي