أنطولوجيا العلاقة بين الوجود الفعلي والوجود الرمزي – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله انطولوجيا العلاقة

لو حاول المرء أن يعد أفضال الغزالي وابن تيمية وابن خلدون على الأمة لعجز عن عدها مهما اتسع اطلاعه على الحضارات وفهمها لمقومات نموها وازدهارها. سبق كلامي على افضال الغزالي في النظريات والعمليات لأن الأولى كان موضوع كتاب الأول حول السببية والثانية موضوع بحثي في نظرية الحكم السنية. لكني اليوم سأتكلم على بذرات بذرها حول نظرية الرمز ودور الاحياز فيها. طبعا هو لم يصغ الأمر بهذه المفهومات لأنها لم تكن موجودة قبل وضعي إياها. وما سيعجب له القارئ وخاصة إذا كان من المتأثرين بالذين تسكرهم زبيبة ويعتبرون نقد الغزالي للفلاسفة علة تخلفنا هو أن نظرته جاءت في المستصفى. سيقول من يعتقدون أنهم حازوا فكر الحداثة: كيف تتكلم على إبداع في نظرية الرمز وعلاقتها بالأحياز في كتاب مخصص للفقه وأصوله؟ وهذا اعتراض غبي. فالفقه وخاصة أصوله لصيق الصفة بالرمز وبالأحياز. فهو متعلق بالرمز لأنه هرمينوطيقي نصي بالأساس وهو متعلق بالأحياز لصلته كقانون بها وبنزاعاتها. ثم لا ننسى أن الغزالي أدخل المنطق لكل علوم الملة بفضل كتاب المستصفى الذي جعل مقدمته مبنية على التصور والتصديق قلبا لتحليلات أرسطو الأواخر. وقد ظن ابن رشد -على خطأ طبعا-ذلك خلطا بين الفنون وغير ضروري للفقه وأصوله ما يعني أنه رغم مقامه كان متخلفا على الغزالي بأشواط لا تحصى ولا تعد. ما هو المبحث الذي يعجب له الكثير: توارد الأفكار التي وضعها ليدحض نظرية التحسين والتقبيح وليميز بين العقل والخيال: Association des idées. وقد أهملت نظريته. فالعلماء لم يروا علاقتها بدحضه نظرية السببية فدحضه للسببية كان بردها إلى مجرى العادات. والتوارد مبني عليها وعلى الأحياز. وحتى يشرح الفرق بين العقل والخيال ذكر عدة أمثلة تتعلق بالأكل والمشي على مرتفع حاد: فالمرء يعاف أكل العسل في المحجمة والمرء يسقط بالدوار. والحضارات الحية التي لا يهمل علماؤها الأفكار التي تبدو شاذة وخروجا عن المعتاد فهمت هذه الأفكار لما اكتشفها داود هيوم: التوارد ومجرى العادات. فعلى الأولى أسس علم النفس وعلى الثانية أسس نظرية المعرفة حتى وإن كان كنط قد أسسها بصورة اسلم لما عممها لتشمل كل معرفة قبلية غير تحليلية. وما يمكن اعتباره اهم عند الغزالي مما عند هيوم هو وصل توارد الأفكار بالمكان والزمان. فالجوار المكاني للأشياء يولد تواردها في الذكرى. وهذا الجوار تساوق سواء كان دائما أو غير دائم. ومثله التوالي في الزمان. كأن تسمع من جديد اغنية فتذكرك بكل ما أحاط بها لما سمعتها أول مرة. هذا بخصوص التساوق والتوالي أي ما يحقق التوارد بما حدث ماضيا. أما الخيال فيتعلق بما يتعلق بالمستقل بسبب العادة: أن تعاف العسل في المحجمة. أو أن يشعر المرء بالدوار فيسقط من على سقف بيته مثلا لأنه الخلاء الذي دون السقف يجعله يتخيل السقوط فيسقط فيكون فيتحول المتخيل إلى حقيقة. والغريب أن الغزالي يدحض حججه في التهافت بحججه في المستصفى عندما يريد أن يميز بين العقل والخيال: فيضرب مثال الخلاء وراء قبة العالم (أرسطو). فهو في التهافت استعمل هذا الدليل ليدحض نظرية أرسطو حول قبة العالم التي ليس وراءها لا خلاء ولا ملاء. فتخيل أنه وصل إلى القبة ومد يده خارجها. لكنه هنا أراد أن يحرر الفقه وأصوله من الخلط بين الخيال والعقل. وهذا الخلط هو الذي يؤسس لنظرية التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة. واعتماده على العقل وليس على الخيال هو الذي مكنه من أن يميز بين نوعين من القيم: التواردية والشرعية. فيورد دور الحيزين الآخرين في التوارد. فالقيم التي ليست شرعية والتي بها يحتج إصحاب التحسين والتقبيح يردها الغزالي إلى التوارد إما بمقتضى العادة أو المصلحة: هي قيم نفسية مصلحية. ولأشر إلى أن أكره ما أكره هو خرافة حيثما وجدت مصلحة كان شرع الله. ما أغبى من يؤمن بها. فالمصلحة عادية وتواردية ونفعية. وشرع الله فوق ذلك. وأصحاب هذا الفقه الانتهازي لم يقولوا من يحدد المصلحة المطابقة لشرع الله. لا بد أن حمار الشيوع سيقف في العقبة أو يجيبوا: يحددها ولي الامر. إنهم أكثر عدوانا على شرع الله من العلمانيين: لأن العلماني يعتبر محدد المصلحة قيم وهي حقوق الإنسان الطبيعية. وهم يجعلونها تحكما للمستبدين. ذلك هو فضل الغزالي: إنها نظريات عميقة لم تنل حقها من التحليل لسوء الحظ فتكون ثورة فعلية في نظرية الرمز والنفس والمعرفة والقيم واصول الفقه. ورغم ذلك فالغزالي لم ينف أن الإنسان يحسن ويقبح بمعايير المصلحة والمنفعة. فحاول أن يؤسس جسرا بين التشريعين: نظرية المقاصد التي لا أحبها. ولست أكرهها لأنها تصل بين التشريعين النصي والوضعي بدعوى العلم بمقاصد الشارع بل لأنها تطيل في عمر الخلط الفقهي بين القضاء والتشريع. الفقيه قاض أو عالم في أصول القانون وليس مشرعا. حيلة القياس والمقاصد لا هدف لهما إلا تمديد عمر هذا الخلط بين السلطتين التشريعية والقضائية. ولا يفهم ذلك إلا من يفهم القصد من الظاهرية الحزمية: فابن حزم الذي يرفض القياس سيرفض المقاصد لو كانت سارية في عصره. الردود على ابن حزم سطحية. فالرد على ظاهرية ابن حزم الفقهية بأنها تؤدي إلى تحليل ضرب الوالدين للاكتفاء بعدم القول أف لهما لا أسخف منه: من جنس بلادة ويل للمصلين. نسي المعترضون لحمقهم {واخفض لهما جناح الذل}. رأوا ما سلب. ولم يروا ما اثبت. ولم يروا خاصة أن خفض الجناح لا حد له ويشمل هذا المسلوب بالطبع. ولو فهموا أن ابن حزم الذي يرفض القياس في التشريع والعمل لا يرفضه في العلم والنظر. وينسون أنه هو أول من صاغ الفقه منطقيا من غير الفلاسفة. وكل هذه المسائل الفقيه والأصولية والكلامية والفلسفية كلها تعود إلى مسألة الترميز ودوره والغزالي له فضل محاولة فهم دور الخيال فيها جميعا. قدمت أن الغزالي وصل المسائل في نظرية التوارد بالمكان (الجوار المتساوق) والزمان (الجوار المتوالي) والتوارد علته أن الرمز ينوب المرموز. فكون اغنية سمعتها في شبابك تسمعها بعد خمسين سنة فيحضر أمامك كل ما أحاط بها رغم الخمسين سنة يعني أن التذكر رمز لما تتذكر في علاقة الماضي والحاضر. وهذه العلاقة صريحة في كلام الغزالي. لكن ما يبدو غير صريح هو الكلام على الفقه النفعي الذي يرفض الغزالي شرعيته دون وجوده فهو الوصل بالنفعية. والنفعية مرتبطة إما بالثروة أو بالتراث. بمعنى أن المشرع النفعي ينحاز للمصلحة المادية أو للمصلحة الرمزية: الأغنياء والشرفاء لهم منزلة خاصة. وإذا سمعت فقهاءنا يتكلمون على أن شرع الله يوجد حيث توج المصلحة فهم يعنون المصلحة التي يحدده من يسمونهم ولاة الأمور والأقوياء: أنذال الأمة. وحاشا أن يكون شرع الله حيث المصلحة حتى لو تفاقه الفقهاء فقالوا نحن نقصد المصلحة الشرعية ولا يرون الدور في كلامهم وتحصيل الحاصل في تعريفهم.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي