أنطولوجيا العلاقة بين الوجود الفعلي والوجود الرمزي – الفصل الخامس

وصلنا إلى الفصل الأخير وفيه قضيتان: تكلمنا على علاقة الرموز بالأحياز الخارجية. ولا بد من الكلام على علاقتها بالأحياز القائمة في كيان الفرد. ففي كيان الفرد مكانية هي الجسد وزمانية هي الروح ومخزونه من الغذاء المادي ثروة ومن العطاء الروحي تراث ويشترك مع الخارجي في نفس المرجعية. فما علاقتها بالترميز ثم ما علاقة هذه العلاقة بتلك العلاقة التي درسناها في الفصل الرابع أي علاقة الأحياز الخارجية بالترميز؟ أما المسألة الثانية فهي حال الامم التي تفقد الصلة بعاداتها الترميزية ومن ثم بأحيازها الخارجية والكيانية في الأفراد مع أمثلة مؤلمة نعيشها. فمن الامثلة المؤلمة اليوم سخافة ما يسمى بجماعات المجتمع المدني. فأغلبها يمولها الأجانب بالفاونديشن لغاية في النفس ويرفضون الأوقاف الإسلامية. ومن جنسه كثير من المواقف التي هي ناتجة عن حال الترميز في أحياز كيانهم المادي والروحي كما سنبين فضلا عن أحياز كيان الجماعة: الاغتراب الرمزي. وقد بينا كيف أن الدول التي تسمى وطنية وهي في الحقيقة محميات لحامي الأنظمة الحالي ومستعمر البلاد سابقا تطلب شرعية مما يتنافى مع وحدة الامة. فهذه المواقف تؤدي بالضرورة إلى الحط من الرموز الممثلة للكيانين الأحياز الخارجية والذاتية ومحاولة تعويضها برموز ذوقية مستعارة من سيدها. مثال ذلك رموز الحضارات الوثنية الماضية ورموز الحضارة الغربية -مثل تماثيل الزعماء-تقليدا لقشور الحداثة ليبدو أي قزم من حكام العرب بطلا. وطبعا فالتراث الذي في مات في حياة الجماعة يحاولون إحيائه والتراث الذي ما يزال حيا في كيان الجماعة يحاولون قتله بكاريكاتور التحديث لحكام ونخب أميين. فيرد عليهم كاريكاتور التأصيل رد داعش بتهديم التراث القديم ظنا أنه يحمي التراث الإسلامي وهو يهدمه رمزيا بصورة تفوق تهديم التراث القديم ماديا. حتى وصل الأمر ببعض الأميين ممن يدعون الليبرالية والعلمانية محاربة تدريس القرآن وهو رمز كل الرموز في حياة الأمة ببغاويتهم يصفونه بالإرهاب. وقد بلغ السخف بإحدى مدعيات الحداثة في تونس إلى محاكاة بريجيت باردو مدعية أن ذبح الأضاحي في العيد عادة بربرية حتى يقال إنها تقدمية. وهذه عينة. ويكفي أن ترى موقف كل الحكومات العربية من يوم الراحة الأسبوعي. فالجميع يحترم يوم السبت ولم يعد ليوم الجمعة أدنى دلالة في جل بلاد العرب. واحد في المائة من سكان العالم فرضوا على بقية البشرية يوم الراحة اليهودية وخمس البشرية بلغ به الذل والمهانة إلى التحيل على الجمعة. ويكفي أن تنظر إلى تسمية الأشهر فهي كلها من عهود منافية لتسميتها الإسلامية. وهذا من الترميز المغترب. وبالتدريج بدأوا يحاكمون أبطال التاريخ. حتى وصل ببورقيبة ثم بجل كلاب الليبرالية إلى اعتبار الرسول الخاتم مجرد بدوي جاهل وامي ومتوحش إلى حد لم يصل مشوهه صاحب الفيلم المسخرة. ولما كان أغنياء العرب -أهل الخليج- ليس لهم تراث قديم فإنهم عادوا إلى تراث الجاهلية وعمران الغرب فاجتمعت قلة الذوق الغربية وعدمه الجاهلي. وبذلك يتبين أن مسألة الرمز في اللحظة العربية الحالية من أهم إشكاليات وجودهم الفاقد لكل اصالة ولكل حداثة وجود أجوف يخلو من أي معنى يعتد به. وأختم الأمثلة بوزيرة التربية الجزائرية إلغاء البسملة من الكتب الدراسية وبلغ الذل والمهانة بحكام الجزائر الأبية إلى القبول باحتقار أسمى رمز. وأضيف ما هو أدهى: فإذا كانت مضامين التعليم في بلد الحرمين تتم تحت وصاية الخارجية الامريكية وقذافي السعودية يريد مواخير فيها فماذا بقي؟ ليست المفاضلة بين الخيارات الثقافية هي ما اهتم به. فلست غافلا على سواد النمطية الثقافية واساليب العيش. ما يعنيني هو دلالته الرمزية عندنا. فهي تحولات تقتل الحي وتحيي الميت وبعد قرنين فشل الأمران معا لأن كل شيء أخذ بالمقلوب: إذ لم يصحبه أبداع للتغير الفعلي يكون قشريا. فنحن نرى حال مصر التي بدأ باشواتها بالتغرب إلى حد إغراق مصر في الديون ومثلها تونس ولم يتغير إلا القشرة الخارجية: فمصر وتونس شديدا التخلف. وما أظن بقية العرب بأفضل حال. ولعل الرمز الأقوى هو لبنان: فليس لها من التقدم إلى بيزنطيات تجار الكلمة ومنافقو الصحافة وكذبة التحضر الرخيص. لا وجه للمقارنة بين أي محمية عربية وأدنى بلاد آسيا حتى بحجم شعبي وقطري أصغر من أصغر دويلة وعربية: شتان بين خدعة دبي وما تحاكيه من آسيا. فجميع من قبل بالتغريب ونجح بدأ بمقومات الحضارة الغربية أعني بعلومها وقيمها السياسية والثقافية. والعرب نكصوا إلى ما قبل جاهليتهم في كل شيء. حكمهم فاشي اقتصادهم كمبرادوري اجهزة الدولة تسحق المواطن ولا تخدمه جامعاتهم محاضن الثرثرة الإيديولوجية “مبدعوهم” عاطلو حانات مفكروهم طواويس. كل عضروت يكون دولة من قبيلة ثم يتعنتر على جاره من العرب ويحتمي بأعداء الأمة والإسلام وحتى شعبه حماية للاستبداد والفساد واحتقار العباد. وهذا كله يتعين في الاحياز المقومة لكيان الفرد حتى يصل إلى حال وصفها ابن خلدون بـ”فساد معاني الإنسانية” بدنيا وروحيا فيتخلق بأخلاق العبيد. وهذا يبين في ابدان العرب: أغنياءهم كرى منتفخة تتحرك بالكاد وتتعالج في الخارج وتأكل من الخارج ولا علاقة لها بالبلاد والعباد إلا لمص دمهم. قراؤهم ترى عظامهم ملتصقة بجلودهم ليس بنيهما لحم ولا شحم. فيجتمع البذع الإدقاع وليس بين السادة العبيد أي شيء مشترك لاهتراء الكيان الرمزي. فإذا تجاوزت الجسد وأثر الثورة فيه وصلت إلى الروح وأثر التراث فيه: فأما الروح كما وصفها ابن خلدون ففقدت معاني إنسانيتها فردت أسفل سافلين. الكل يكذب على الكل. الخش والسفه والنفاق في كل شيء. ومنطق الرشوة والكسل والهروب من العمل وبيع البلاد والعباد فتخترق الأمة كالجبس بأدنى سعر. إنه الجنجران الخلقي العام فلم يبق من أخلاق الإسلام إلى الأقوال التي تناقضها الافعال حتى إن العبادات صارت خزعبلات ونوافل لا تدينا صادقا. أما قيم الإسلام الشارطة للاستعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف في حماية الأمة ورعايتها حتى تكون سيدة فيسود معه الإسلام فإنها منفية تماما. ذلك أن القيم والاخلاق ليس كلاما حولهما بل هي الصورة التي يجري بمقتضاها الفعل ليكون مثمرا كعلاقة بين الذوق والعلم في مستوييهما اللذين رأينا. لكن دلالة كل الرموز المحددة لهوية الجماعة فقدت أو حوربت إلى حد صار مجرد التلميح لها تهمة عند حكام ونخب من المفروض أن يكونوا حماة لها. اعتقد أني بينت قدر استطاعتي طبيعة الأزمة الروحية التي تقتضي إعادة البناء من الصفر لأن ما يجري يبدو وكأنه جريمة خونة يمنعون شروط الاستئناف.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي