ه
قد يوجد من يتعصب لعقيدة “دينية” حتى لو أثبت التاريخ فشلها بإطلاق. قد أفهمه رغم أني لا أقبله. أما أن يواصل إنسان يدعي العقلانية والحداثة التعصب لـخيارات حركة سياسية لم يثبت التاريخ فشلها فحسب بل أثبت عكس كل ما توقعته وفساد كل ما فعلته فأمر لا تجده إلا عند نخب تونس اليسارية والقومية بجنسيها والدستورية والتجمعية. وعليها تقاس نظائرها في بقية البلاد العربية.
لا يمكن أن تجد اليوم في أي مكان من العالم من يمكن أن يواصل الدفاع عن فكر جنيس للبعثية بشقيها (العراقي والسوري) أو لناصريها بشقيها (عبد الناصر والقذافي) أو للماركسية بشقيها (الستالينية والكورية الشمالية) أو ما يناظرها في العالم إلا في البلاد العربية. فالقوميون العرب واليساريون والدستوريون والتجمعيون لن يزحزحهم مزحزح رغم مآل خياراتهم وخرابها اللذين لا جدال فيهما.
والأدهى أن من أوصل هذه الكائنات إلى الزعامة السياسية المزعومة هي الأحزاب التي حكمت تونس بعد انتخابات المجلس التأسيسي ثم التي تلتها في الحكم. فهذه الأحزاب هي التي أتت بصنفين آخرين لم أر لهما مثيلا في العالم. فكل بشاعات الانتهازية السياسية والسياحة الحزبية وسوق بيع النواب وشرائها وأول من أبدع هذه التجارة هو رئيس الدولة الحالي وقلده رئيس الوزراء الذي عينه فخانه لا يمثلها إلا أولئك الذين أصبحوا من “النخبة” السياسية إما عن طريق حزب المرزوقي أو حزب ابن جعفر أو حزب النهضة وشقوق حزب السبسي أو المتقافزين من سفينته إلى سفينة الشاهد التي غرقت قبل أن تبحر لأنها “بحرت” بالتونسي.
أما دور الاتحاد فلا جديد فيه لأنه منذ الخلاف البورقيبي اليوسفي كان دوره معلوما وهو دائما مع من يعلم أنه حاصل على رضا المستعمر أو مع كل مخترق للنسيج السياسي والثقافي التونسي وخاصة إذا شم فيه رائحة الإسلام. وقد كان المخترقون سابقا القطبان الدوليان مباشرة مع فرنسا ثم صار ذراعي القطبين أي ما بقي من أحدهما وما تفرد به الثاني وذراعيهما في الإقليم أعني إسرائيل وإيران.
وصار للذراعين مفكرون ومتفلسفون على مناخ الضاحية والممانعة وما يتبعهما من عنتريات المقاومة بالأقوال التي تناقض الأفعال ولنظائرهما في الثورة المضادة العربية التي لا تبخل على المتطوعين لتبرير كل شيء باسم الحداثة والعلمانية وهم آخر من يحترم قيمهما إذ لا يمكن أن يكون قادة الثورة المضادة الخليجية او الإيرانية وتوابعهما من الانظمة العربي إيمان بشيء من القيم سواء كانت دينية أو علمانية.
وبذلك اكتملت الدائرة فعدنا إلى نوعي اليسار ونوعي القومية اللذين ونوعي الحكم السابق على الثورة والاتحاد الذي احتلوه بشعبوية مناطقية ساوقت نفس المناطقية التي يمثلها هذان اللونان السياسيان من بدايته إلى الآن من التحق بهما من الحزبين الحاكمين والعائدين إلى الحكم بعد تخبط الترويكا. ولا يمكن في هذه الحالة أن تخرج تونس من الفوضى الحالية خاصة إذا لم ننس تسيب المافيات من الجنسين بعد رحيل رئيسها ورئيستها وعودة الطيار من بلاد صاحب المنشار.
ومع ذلك فلا بد من الاتفاق على جملة من المعطيات الضرورية التي لا يمكن لأي طرف نكرانها إذا لم يقدموا على إسقاط السقف على سكان هذا البلد الصغير الذي هو قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس. وهذه المعطيات قابلة للحصر ليس في تونس وحدها بل في كل وضعية سياسة لـجماعة تعيش في نفس الأرض وتريد الا تصل إلى الاقتتال والحرب الاهلية. فهي حتى لو حصلت لن تحسم شيئا وستعود إلى نفس الوضعية لأنه يعسر أن يفني أحد الصفين الثاني إذ حتى رواندا عادت إلى ما ليس منه بد. وإذن فأول مبدأ هو حسم المسائل التالية:
- المسألة الأولى:
هل ينوي أحد الصفين أن يفني الصف الثاني؟
وهل هو قادر على ذلك؟
وهل إذا حصل ذلك يمكن أن يدعي أنه سيحل مشاكل تونس بالصورة التي ترضيه؟
يعني هل يوجد “بول بوت” أو “ستالين” أو “رئيس كوريا الشمالية” أو “محتلو أمريكا” أو “محتلو استراليا” في تونس ويسعون لإفناء الأنديجان؟
- المسألة الثانية:
إذا تعذر هذا الحل الاستئصالي هل ننوي المرور إلى حل ثان: وهو كيف نجد خطة تمكن الفرقاء من العيش المشترك بأقل كلفة ممكنة بالنسبة إليهم وإلى شروط بقاء الجميع في نفس الأرض وفي علاقات شبه مستقلة عما يحيط بهم وقد يكون من المتربصين بهم؟
وهذان المعنيان يسميان: الرعاية والحماية الذاتيتين.
- المسألة الثالثة:
ولما كان هذا الحل الثاني ليس أمرا قابلا للانتظار بل هو رهن حراجة الوضعية الجماعية وشروط البلاد الاقتصادية والثقافية او شروط الهشاشة الجماعية فهل ما زالت تونس قادرة على تحمل النزاعات التي تحول دون المرور إلى العمل الذي يخرجها من حراجة الوضعية؟
والجواب معلوم فتونس اليوم في وضعية لعلها أردا من وضعية الكومسيون المالي ومن لحظة فرض الحماية العلنية لأن الخفية موجودة بعد.
- المسألة الرابعة:
لما كان الوعي بهذه الوضعية يمكن أن ييسر “التفاوض الجدي والصريح” بين الأطراف لتجاوز النزاعات التي ليست جوهرية ولا مصيرية وتحديد المصيري في شؤون البلاد ثم وضع استراتيجية الخروج من الأزمة. أليس ذلك هو ا لخطوة الرابعة التي ينبغي أن تكون استراتيجية الخروج من الوضعية وتأجيل كل ما عدى ذلك إلى مفاوضات لاحقة مع تقاسم الحمل والمسؤولية.
- المسألة الاخيرة:
وحينها يصبح الحل الوحيد هو ما يسمى بالوحدة الوطنية التي لا يمكن الجمع بينها وبين الديموقراطية إلا بأعدل حل وهو ليس الانتخابات بل الاحصائيات لتحديد نسب التمثيل باعتماد الحساسيات السياسية والجهوية والثقافة والاقتصادية بصورة يجد الجميع في الوحدة ما يناسب حاجاته وطموحاته.
وهذا ليس مستحيلا. ذلك أن تونس ليست بلدا كبيرا ولا هي بلد غني حتى لو صح ما يقال عن ثرواتها النفطية. ففيها اثنان وعشرون ولاية. ويكفي أن تكون ممثلة بالعدل ككل ثم في كل واحدة منها لتخرج سلطة حاكمة مشرعة ومنفذة تشرف على وظائف الدولة التي ينبغي أن تكون مستقلة بضمانة الجميع وأعني بوظائف الدولة عشرة وظائف خمسة منها للحماية وخمسة للرعاية كالتالي.
فالحماية داخلية وهي العدل والأمن، والحماية خارجية وهي الدبلوماسية والدفاع، ويجمع بينها نظام الاستعلام والإعلام السياسي الذي يجعل الحكومة والشعب على علم بما يجري في البلاد داخليا وحول البلاد خارجيا وتلك هي الحماية التي تحمي الجميع وتحد من التدخلات والاختراقات الأجنبية.
والرعاية تكوينية وهي التربية النظامية وسوق العمل ودور الخريجين فيها. وهي تموينية أي الثقافة والاقتصاد لأنهما هما ما به تقع الرعاية للأبدان والارواح.
لكن هذه الوظائف لا تتحقق من دون البحث والإعلام العلميين اللذين ينتجان مادة التموين وطرق التكوني ومن ثم أدوات الرعاية والحماية.
ذلك هو الحل أو مراحله الأساسية. وطبعا هذا يقتضي الاعتراف المتبادل بين القوى السياسية التي من المفروض ألا تتجاوز خمس مجموعات موجودة في كل نظام للقوى السياسية:
- فلا بد من يمين رأسمالي يقدم الاقتصادي على الاجتماعي.
- ولا بد من يسار اشتراكي يقدم الاجتماعي على الاقتصادي.
- ولما كان الاول مستحيل النجاح شعبيا فهو يميل إلى يسار اليمين بإضافة البعد الاجتماعي إلى برنامجه السياسي.
- ولما كان الثاني مستحيل النجاح انتاجيا فهو يميل إلى يمين اليسار بإضافة البعد الاقتصادي إلى برنامجه السياسي.
- ويبقى الوسط قوة مرجحة لأحدها بحسب نتائج الانتخابات لأنه انتهازي الجوهر.:
ويمكن عندئذ تحقيق وحدة وطنية بمعيار التأليف النسبي بين الاقتصادي والاجتماعي في مشاغل السياسة وموضع علاجها على الأقل إلى أن يستقر الوضع وتستعيد تونس توازنها ويعود العمل المنتج الحياة العادية التي تخرجها من صراع الورثة الحمقى الذين تمثلهم النخب السياسية والثقافية والفكرية التي وصل بها التكاره والتعاقد إلى حد لم أر له مثيلا في أي شعب طبيعي.