1-كتبت سنة 1979 محاولة بالفرنسية بعنوان”الاجتماع النظري الخلدوني” مشروع رسالة جامعية (دكتوراه الحلقة الثالثة) قبل أن اقر العزم على البحث في “منزلة الرياضيات في علم أرسطو ». لكني لم أهمل البحث بل أضفت إليه بمناسبة جولة القذافي في الجزائر بعدها بقليل قسما ثانيا وعربته فصار « الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر» لدراسة ظاهرة الأنظمة وحركات التحرر العربية مطبقا تحليل ابن خلدون لفواعل التاريخ. فوصفت الأنظمة بكونها جزائرية (دكتاتورية عسكرية مستبدة وفاسدة) والمقاومة بكونها فلسطينية (فصائل متناحرة وتابعة لصراع الأنظمة المتاجرة بالقضية).
2-وللأسف فالأمر ما الأمر على ما كان عليه بعد ما يقرب من أربعة عقود: كلاهما يتاجر بثورة خانها بعد أن نجحت بدكتاتورية العسكر ( الجزائر وليبيا) أو يخونها قبل أن تنجح بدكتاتورية أمراء الحرب (فصائل المقاومة الفلسطينية). ومن ثم فهم لم يفهموا بعد أن التحرر من الاستبداد والفساد ينبغي أن يساوق التحرير من الاستعمار المباشر وغير المباشر: إذا كنت تابعا فلا بد أن تكون مستعبدا مرتين من المستعمر وممن ولاه عليك.
3-وكنت أتصور أن الثورة على الدكتاتورية ستحرر الأنظمة والمقاومات من المرضين حتى يتم الصلح بين المحافظة والتقدم من أجل الاستئناف التاريخي المشروط بالتحرر من الجغرافي والتاريخ اللذين فرضهما الاستعمار للحيلولة دونه.
3-لسوء الحظ : من يتابع أحداث الثورة في سوريا ومصر وليبيا واليمن وحتى في تونس يرى أن مرض أمراء الحرب ما يزال المسيطر على الثوار والمقاومين : متلهفون على تكوين إمارات أو حكم الإمارات الحالية التي هي توابع فاقدة لشروط السيادة.
4-نريد أن نحلل القضية لنفهم السر في ذلك. وللإنصاف فإن كل الثورات تتعثر في البداية إلى أن تتحدد الغايات والأدوات والاستراتيجية والقيادة.
5-ومعنى ذلك أننا نفهم أن يسود التعثر في البداية في هذه الوجوه جميعا:أن يبقى الحال بعد أربع سنوات أو ما يقرب منها فأمر محير ينبغي فهمه.
6-وسأبدأ باليمن الذي بدأت فيه الآن محاولة العرب تدارك التقاعس لأن الخطر بات شديد المباشرة فلم يبق للخليج مفر من الاستفاقة قبل الطوفان. بالتونسي نقول: “أصبح الدق في الدربالة” أي الضرر صار مباشرا.
7-هل يمكن فهم قدرة الحوثي وصالح على الصمود ما يقرب من شهر لو لم تكن الثورة مريضة بداء المقاومة الفلسطينية : أمراء حرب قبائل زعماء مناطق؟
8-لكن هل كان الخطر الإيراني يصل إلى هذا الحد لو لم تكن أنظمة العرب من جنس النظام الجزائري: إهمال تام لوظيفتي الدولة : الحماية والرعاية؟
9-لذلك فالربيع العربي فضح ثنائية دكتاتورية العسكر في الأنظمة ودكتاتورية أمراء الحرب في الحركات فانفضح قبحها في هوان واقع العرب الحالي.
10-فلا يكاد المرء يصدق أن تكون المعارك بين فصائل المقاومة في سوريا أكثر عددا وافضح نتائج من معاركها مع النظام الذي ينتهك حقوق الجميع.
11-وقد أفهم أن تتصادم عناصر حركات المقاومة عند الوصول إلى غاية الحرب والانتقال من الثورة إلى الدولة كما يحدث في غالب الثورات. لكن الآن أي معنى للصراع بين الفصائل؟
12-ولو كانت معاركهم المتقدمة على تحقيق الغاية من أجل قيادة المسعى إليها والزعامة لفهمنا. لكنها معارك لاقتسام الأرض المحررة فذلك يعني أن كل أمير يريد دويلة.
13-لذلك فالثوار يواصلون المنطق الذي تستند إليه الدويلات العربية الحالية: كل قبيلة أو عسكر أو طائفة صارت دولة وجعلتها أمة : سر هوان العرب.
14-لذلك فالثوار ليسوا ثوارا إلا بمعنى أمراء حرب لإنشاء دويلات ستكون بالضرورة أكثر تبعية من الدويلات التي يدعون الثورة عليها وهم من جنسها.
15-وليس انفصال غزة عن الضفة ببعيد : فقد حذرت قيادات حماس من أخذ السلطة التنفيذية ناصحا بالاكتفاء بالتشريعية : تجنبا لما ينافي المقاومة.
16-فلم ينتصحوا : النتيجة أنهم باتوا مخيرين بين إهمال مصالح الشعب الحياتية أو أهمال المقاومة إذ لا يمكن الجمع بين وظائف الحكم والمقاومة.
17-صحيح أن لهذه القاعدة استثناء : عندما تكون المقاومة موحدة ولها دولتها كالحال مثلا في فياتنام الشمالية التي تقاوم في فياتنام الجنوبية.
18-أما في حالة فلسطين فإن الخيار الاستراتيجي الخفي لحل أوسلوا كان يعني أن عرفات اختار بدهاء الحل الديموغرافي في دولة واحدة ذات قوميتين.
19-وقد كاتبته في ذلك عن طريق القدس اللندنية لنصحه بتجنب الانتفاضة المسلحة لأن ذلك سيمكن إسرائيل من إفشال الخطة بعيدة المدى لفاعلية خطته.
20-ولنعد إلى الراهن : تردد قبائل اليمن وأحزابه في المقاومة وتقديم منطق الانفصال الجنوبي على تحرير اليمن قد يفشل عاصفة الحزم لا قدر الله.
21-تكرر القتال بين الفصائل في سوريا قد يساعد إيران على فتح الممر من فارس إلى الأبيض المتوسط لأن العراق ابتلع ولبنان كذلك. لم يبق إلا حاجز سوريا.
22-تردد المقاومة المصرية يجعلها عرضة لخطرين : تغول داعش والنظام لأنهما يتغاذيان : النظام بحاجة إلى داعش ليبرر وجوده ويحصل على السند الأجنبي.
23-وما يجري في مصر مؤثر جدا لما يجري في ليبيا وما يجري في ليبيا مؤثر جدا لما يجري في تونس.والنظام الجزائري قلبه مع السيسي لا مع الثورة.
24-وهكذا عدنا إلى ما كتبت في 1979 القسم الثاني من كتاب الاجتماع النظري أي والتاريخ العربي المعاصر : تحليلا لأخطار داء الأنظمة والحركات.
25-ولنطلب الآن السر بعد أن وصفنا الأوضاع وتماثلها في المشرق والمغرب على حد سواء : إنه ما سميته بالانحطاطين الذاتي والموروث عن الاستعمار.
26-فالانحطاط الذاتي=النكوص إلى الجاهلية:1-حكم السلاطين + 2-حكم القبائل أو حكم الاقتطاع من أرض الأمة بالغزو=فقه المتغلب والصراع البدائي.
27-والانحطاط المستورد = النكوص إلى الاستعمار: 1-حكم العسكر + 2-حكم النخب العميلة للغرب المشرعة للقطع النهائي مع المرجعيات الذاتية وقتل الأمة.
28-إذن : 1-حكم السلاطين + حكم القبائل + فقه التغلب + حكم العسكر + حكم النخب العميلة + تأسيس القطع مع المرجعيات الذاتية = الحرب على شروط الاستئناف.
29-هذه هي معركة الثورة: كيف نتخلص من هذه الأدواء؟ لكن القضية طرحت في الوعي الثوري كما يتبين من شعاراتها بشكل جعلها تصبح حرب الاستئناف.
30-فمطالب الثورة اختزلت في الحرية والكرامة فتبين أنها مشروطة بما يحققهما:بشرط القوة المادية وبشرط القوة الروحية : بأساسهما أي وحدة الأمة.
31-والغرب مدرك لذلك جيد الإدراك: ممثلة الوحدة الأوربية بررت ضرورة مساندة الخائن السيسي بالقول إن سقوطه يعني استرجاع مصر لدورها الإسلامي.
32-وهم يخوفون من هذا الدور بمفهوم الخلافة الذي يشوهونه بأن حققوا منه كاريكاتورايعيد إلى أذهان رأيهم العام ما كان مجرد ذكرى تشويه قروسطي.
33-وهذا الكاريكاتور يقتضي أمرين : خلافة مشوهة توجد بالفعل وأدوات سينمائية شديدة الحداثة لإبراز هذا التشويه لقتل حلم الاستئناف لدى شعوبنا.
34-حركات المقاومة ما تزال مشدودة إلى الانحطاطين الذاتي والاستعماري فلم تستطع تحقيق الوحدة الغائية والاستراتيجية والقيادية: أمراء حرب.
35-وعندما يعود الوعي لبعضها كما في سوريا : يوجه إليها سلاح الكاريكاتور من الغاية فيشتت صفها وينازلها بدل النظام الذي تحاربه ليشوه الجميع.
36-وكنا قد بينا شرط القوة المادية ما هو:إنه سلبا إنهاء الجغرافيا التي فرضها الاستعمار على الوطن واستعادة وحدة الأرض شرط كل تنمية حقيقية.
37-كما بينا شرط القوة الروحية:إنه سلبا أنهاء التاريخ الذي فرضه الاسعمارعلى حضارتنا واستعادة وحدة التاريخ الإسلامي لاستعادة قدرة الإبداع.
38-ذلك أن شرط القوة المادية (الحجم الجغرافي) وشرط القوة الروحية (العمق التاريخي) هما ثمرتا المرجعية التي جعلتنا خلفاء شاهدين على العالمين (البشرية).
39-وهذا الدور هو سر الطموح الكوني للأمة والمحرك الروحي للشباب بجنسية حتى يبدع ويقود : ولعل بداية الحزم في العاصفة سره قيادة الشباب بحق.
40-لست شابا فاكتفي بالكتابة آملا أن يكون الشباب الذي يقود الثورة في الأنظمة وفي الحركات قارئا في آن حتى يعلم طبيعة الدوافع والغايات.
41-فالأمم العظيمة هي الأمم التي يكون شبابها بجنسيه ذا طموح معياره قولة الرسول لما أقسم : لن يتخلى عما آمن به لو أعطيت له الشمس والقمر.
42-وفي هذه الحالة: فكل تعلق بإمارة أو بدويلة ينافي الهدف النبيل من الثورة سواء من منطلق الأنظمة أو من منطلق الحركات: ما يوحد الفاعلين هو الاستئناف.
43-وشروطه بينة: توحيد المكان والزمان العربيين بإزالة العائقين الجغرافي والتاريخي اللذين فرضهما الاستعمار حائلين دون القوتين مادة وروحا.
44-ولا يعني ذلك القضاء على الاقطار الحالية : فهذه عوامل إثراء حضاري لأنها تنافس على إحياء كل الأرض وكل التعابير الحضارية بل وحدة الشروط.
45-الولايات المتحدة العربية: تعني الجمع بين مواطنتين قطرية وقومية سر القوة العربية التي ستكون قاطرة للأمة الإسلامية كما يحدث في أوروبا حيث تم الجمع بين مواطنتين شرط قوة قطرية وقارية.
46-ستجد بعض السخفاء يخوفون الملكيات والإماريات والسلطنات بأن الولايات العربية المتحدية خطر عليها لأنها ستغير طبيعة الأنظمة: كذب في كذب.
47-أوروبا المتحدة فيها الجمهوريات والملكيات والإمارات. ما يوحد الأنظمة اسلوب الحكم لا طبيعتها : أن يكون النظام ديموقراطيا شرعيا لدى شعبه.
48-وسيخوفونهم من أنهم سيفقدون السيادة. وهذا أيضا كذب لكنه مضاعف:1-هل النظم العربية ذات سيادة ا أم هي تابعة 2-وحدة أوروبا لم تزل السيادة.
49-جعل جامعة الدول العربية جامعة شعوب لن يزيل سيادة الدول بل هو سيقويها وسيمدها بالقوتين المادية والروحية فيمكنها من شروط الحماية والرعاية.
50-وعندئذ يمكن لكل دولة عربية أن تكون بحق ذات سيادة لأنها تكون قد حازت على شروطها : القدرة المادية والروحية على الحماية والرعاية الذاتية.
أمراض الأنظمة والحركات العربية السنية وعلاجها – أبو يعرب المرزوقي