أشرت في أحد الفصول من المحاولات السابقة أن العلم يوجد بين فكي كماشة هما الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان وكلاهما مجهولا الطبيعة. صحيح أن من يتصور الموجود في الأذهان مجرد انعكاس للموجود في الاعيان يصعب أن يفهم المشكل لأن الامر عنده بسيط جدا: عقلنا مرآة عالم المحسوسات. وهذه الرؤية التي هي قمة السذاجة المعرفية هي التي يسميها اصحابها فهما للواقع وتقيدا بما فيه سواء في كلامهم على الإبداع العلمي أو على الابداع الأدبي (الادب الواقعي). وظني والله أعلم أن هذا هو سر التخلف الذي نعاني منه في كل مجالات حياتنا الفكرية والروحية وخاصة السياسي والاجتماعية. ولست أقصد بهذا الكلام أني أتبنى الموقف المقابل فاعتبر أن ما في الأعيان هو إسقاط لما في الأذهان -ويسمون ذلك مثالية في مقابل الموقف الاول الذي يسمونه واقعية أو مادية-بل أقصد أني أجهل كلا الفكين المحيطين بما نسميه معرفة علمية أو حتى دينية. وبين أن الدين أقرب للمثالية منه للواقعية. فالغالب على تصوراته ومفهوماته أن الدنيا والمحسوسات ليست إلا ظاهرا من الوجود وأن الوجود الحق وراؤهما وهو من طبيعة مجهولة واسمه عالم الغيب بالمقابل مع عالم الشهادة. وطبعا فالدين لا يعتبرهما فكي كماشة منفصلين بينهما العلم بل يعتبر العلم نفسه في حدود كونه علما منتسبا إلى الدنيا. وهذا على الأقل موقف الإسلام الذي ينفي علم الغيب حتى على الأنبياء ويحرم الخوض فيه لكونه موضوع الإيمان (آل عمران7) ويتهم كل من يدعي القدرة على تأويله بكونه مريض القلب وباغيا للفتنة. وما يعني الدين من هذا العالم الذي يشد إليه الدنيا هو ما يستمد منه قيم تجعل الإنسان لا يخلد إلى الأرض هذه هي القضية التي اريد أن أعمق فيها النظر لعلنا نفهم معنى الفكين المحيطين بالعلم دون أن نلتزم بأي من الموقفين الذي يرد ما في الأذهان إلى ما في الأعيان ويسمون أنفسهم واقعيين أو ماديين والذي يعكس فيرد ما في الأعيان إلى ما في الأذهان ويسمون مثاليين أو روحانيين: أعلق الحكم مؤقتا. إن اعجابي بمن أطلقت عليهم فلاسفة المدرسة النقدية العربية -الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-علته أنهم كانوا في تاريخ فكرنا أول من تساءل حول نظرية المعرفة الساذجة القائلة بالمطابقة بين ما في الأذهان وما في الاعيان وحتى ما في الأذهان لما في الأذهان وما في الأعيان لما في الأعيان. سيقال التشكيك في “المستوى الأول من المطابقة” فهمناه. لكن ما معنى التشكيك في مطابقة ما في الأذهان لما في الاذهان وما في الأعيان لما في الأعيان؟ بعبارة أخرى كيف يمكن الا يطابق الشيء ذاته سواء كان هذا الشيء من الوجود الذي في الأذهان أو من الوجود الذي في الأعيان؟ إذن انتقلنا من ثلاث عناصر العلم وفكي الكماشة إلى مضاعفة الفكين لأن ما في الأذهان صار نوعين وما في الأعيان صار نوعين. وفي الحالتين الذهني والعيني بعضه يبدو معلوما وبعضه يبدو مجولا فيكون العلم بين معلوم ومجهول قبله وبين معلوم ومجهول بعده أو بصورة أدق بين ذاتي وموضوعي كلاهما مضاعف فتصبح المعادلة ذات خمسة أبعاد: اثنان في الأذهان واثنان في الأعيان وواحد فيما نسميه علما أي منظومة الرموز التي نعبر بها على ما نسميه علما وحتى ما نسميه أدبا. ومعنى ذلك أن ما يتضمنه الاسترماز يحيل إلى أمرين قبله معلوم ومجهول وأمرين بعده معلوم ومجهول. ولولا ذلك لكان الاسترماز ثابتا لا يتغير. وإذ أقدمت على الكلام في المسألة فإن لا أطمع في رضا صاحبي الردين 1-المادي -الذي يؤسس يقينه الإلحادي على رد ما يتجاوز مداركه إليها (ابن خلدون رد الوجود إلى الإدراك) -2-المثالي الذي يؤسس يقينه الإيماني على رد ما يدركه إلى ما لا يذكره أو الغيب-فموقفاهما في الحقيقة عقديان لا علميان. ولا يعني وصفي لموقفيهما أني أعلم ما يجهلانه بل أعني أني لا ادعي علم ما لا أعلم. فالاعتراف بالجهل هو بدروه علم أي أني أعلم أني لا أعلم طبيعة ما في الأذهان ولا طبيعة ما في الاعيان فضلا عن شرعية رد هذا إلى ذاك أو رد ذات إلى هذا. ومن ثم فالفرق هو أني اعترف بعقدية الخيار ولا علميته. سأقدم دليلين يبنان القصد من عدم مطابقة ما في الأذهان لما في الأذهان ودليلين يبينان القصد من عدم مطابقة ما في الأعيان لما في الأعيان. هي أربعة أدلة لها أصل واحد هو هذا اللغز أو السر الوجودي الذي أريد فهمه وما أظن أحدا بدأ يفهم معنى الفلسفة ماهي من دون أن يطرحه على نفسه. وإذا طرحه على نفسه بصدق وحاول تلمس الطريق نحو فهم ما يمكن فهمه منه فإنه سيعجب أيما عجب من الصراع الدائم بين أدعياء الفلسفة المنافية للدين وأدعياء الدين المنافي للفلسفة لأن الأولين هم من اختار إطلاق عقده بأن ما في الاعيان يرد إلى ما في الاذهان والثانين عكسوا: وهما الكاريكاتوران. دليلا التشكيك في مطابقة ما في الأذهان لما في الأذهان: ابستمولوجيا التمييز بين النفسي والمنطقي (راجع هوسرل ومحاولات التخلص من النفسانية في المعرفة) وتواصليا التمييز بين ما الذاتي وما بين الذوات إذ أن المشترك بيني وبين غيري ليس هو الخاص بي ولا هو الخاص به بل ما نشترك فيه. وكل مشاكل التواصل علتها هذا الفرق والخصومات الممكنة وسوء التفاهم الذي يتكرر هو محاولة كلا طرفي التواصل توهم فهم الطرف الثاني خاطئا لأنه لا يرد إلى فهمه. وتصبح القضية كلها قضية تأويل ما في الوصلة التواصلية التي هي نظام الترميز وتأويلات الرموز والقبول بأمور تقريبية لفض الخلافات. وأكاد أزعم أن لجوء البشر إلى الحسم العنيف لخلافاتهم هو عسر الحسم اللطيف لخلافاتهم التواصلية. ذلك أنه يمكن أن يبقى السعي لتحقيق التطابق بين الفهمين اللذين يوجدان على طرفي سلسلة التواصل والتراسل شبه مستحيل حتى لو التقيا وجها لوجه ناهيك عن التواصل مع عالم الغيب في فهم النصوص المقدسة. ونفس الامر يقال في المستوى الابتسمولوجي: كيف أميز بين المنطقي والنفسي (Psychologisme) في التصورات. ذلك اننا لو لم نميز أبستمولوجيا لرجعنا إلى المثال السابق في التواصل. ومعنى ذلك أن العلماء والفلاسفة يعتبرون الحكم في المفهومات ودلالتها الكلية هو المنطق بوصفه معياريا Normatif. وبذلك يتبين أن ما في الاذهان ليس من جنس واحد بل أكثر من ذلك فكلا الجنسين هو بدوره ليس متطابقا مع ذاته حتى إنه يمكن القول إن كل تصور في الذهني يله تصور مختلف عنه وهو ما جعل ابن تيمية يعتبر كل تصور وراءه تصور أدق منه إلى غير نهاية. والتصورات تتراكب بلا حد في كل ذهن. تكون حقيقة ما في الذهن غير معلومة لا في العلم ولا في التواصل بل هي مفروضة مثلها مثل الـ Vanishing Point ـ في مناظرية الرسم وهي تبدو في غاية العملية اللامتناهية في التصورات المتوالية لأمر نفترضه قائما الذات خارج العملية النفسي لفعل التصور دائم التكرار. ونفس ما لاحظناه في المثالين المتعلقين بالوجود في الاذهان يمكن قوله في مثالين يعلقان بما يوجد في الأعيان. فحتى لو فرضنا أن كل البشر لهم نفس المدارك الحسية فإن ما يدركونه بحواسهم الخمسة ليس واحدا إلى فرضيا ولنضف الآن الإدراك العلمي لما يعتبر موضوعات المعرفة في الخارج. فالمدارك الحسية متفاضلة بتفاضل قوة الحواس عند البشر والمدارك العلمية متفاضلة بتقدم أدوات الإدراك العلمي في المخابر. فلو جاء إنسان من القرون الوسطى وكلمناه عن الجراثيم مثلا لما صدقنا ولواصل الكلام على التولد الطبيعي للأمراض. والمعلوم أننا اليوم نتكلم على الانجشتروم في قيس المكان. ونتكلم على ما دون الواحد في المليار في قيس المكان وفي قيس الاجرام وهي امور قد لا تتوقف في التصاغر كما يمكن ألا نتوقف في التعاظم إذا سلمنا بأن العالم يتمدد ولا ندري بين حدي التعاظم والتصاغر ما حقيقة المتعاظم والمتصاغر لا بالقياس إلى حواسنا ولا إلى آلات قيسنا للوجود في الاعيان. كلا الوجودين في الأذهان وفي الأعيان متلاشيان أو ذاهبان على غير غاية في جرينا وراءهما لإدراك طبيعتهما ولعلهما نفس الشيء ولا ندري مصدر الترائي ببينهما أي ما هو منهما المصدر وما هو منهما المصب أو ما هو المترائي وما هو المنعكس منه على مرآة ما نسميه الوجود في الأعيان أو في الاذهان. وبين هذين التلاشيين اللامتناهيين نثبت شيئا نسميه موضوع العلم في الفلسفة ونثبت شيئا نسميه موضوع الإيمان في الدين وهو ثبات دائم التغير ولا يجمد إلا بجمود الفهوم الرديئة للكاريكاتورين اللذين يقنمان تصوراتهما ويتعصبان لها في معركة الدينية التي هي اقيانوس “المثقفين” الإيديولوجي.