لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهأزمة تونس ما دوافعها العميقة؟
لا أدعي خبرة في المناورات السياسية ولكني أعتقد أن الطعم أمسك بالسمكة. والسمكة كالعادة هي النهضة. ذلك أني استبعد أمرين لا يمكن أن أتصورهما يحصلان الآن: • الأول أن يقدم الشاهد على ما فعل في خطابه الاخير دون إذن من رئيس الجمهورية، • ولا يمكن أن يتجرأ الشاهد على الاتحاد من دون توجيه منه. وطبعا فعندما أنسب الامر إلى رئيس الجمهورية فالنسبة هي بالمعنى الذي عرفه هو بنفسه أعني بأوامر المسؤول الكبير. لذلك فلا يمكن أن يكون الطعم “خطف” من دون أحد أمرين: • إما أن النهضة واعية بذلك وليس لها حل آخر غير أداء الدور المفروض. • أو أنها غير واعية وصدقت لعبة القطيعة بين الشاهد والرئيس. وتجنبا للف والدوران فلأقلها مباشرة: هذه ليست قطيعة بل هي خيار لـ”الدوفان” أو لمن اختاره المسؤول الكبير ليكون خليفة الرئيس في الانتخابات الرئاسية القادمة وما يجري هو نوع من سيناريو لإضفاء شيء من سمات رجل الدولة عليه بمواقف تبدو معبرة عن شجاعة سياسية. ذلك أني مهما توسمت الخير في رئيس الدولة -كما سبق أن أعلنت عن ذلك في رسالتي المفتوحة بعد رفضه ما طلبت منه دول الثورة المضادة-فإني لا يمكن أن أصدق أن يضحي بابنه وأن يقبل إهانته بالصورة التي وردت في خطاب رئيس الحكومة. وحتى لو سلمنا بأنه يفعل فإن أم ابنه لن تقبل بذلك أبدا. ولست أنوي تقديم نصائح لأحد لأني لا أدعي الخبرة التي يملكها من يمارسون السياسة حاليا لكني أعجب من سلوك النعامة الذي يجعلك تخسر ما عندك ولا تحصل على شيء جديد (حلفاء أو جماهير توسع القاعدة) ثم تزعم بأنك ممسك بخيوط اللعبة وقادر على المناورة في حين أنك ضحية كل مناورة تتوهمها. فلا أعتقد أن الباجي “يعطي الجنب” للنهضة أبدا وأنه أراد أن يحجمها بكل الطرق فاكتشف أن أهم أداة لتحجيمها تنقصه: ليس له حزب قوي ولا بد إذن أن يعود لخطته الاولى وهي تجميع الكل ضد النهضة في الانتخابات المقبلة. وهذا لا يكون إلا بشرطين: • بتأييد المسؤول الكبير • واستعادة مزيج “جبهة الانقاذ” والأمر الذي سرّع الحسم هو ما كنت متخوفا منه أعني سياسة الانتخابات البلدية. فهي بيّنت له أن حل الحزب البديل من جبهة الانقاذ لم يحقق الهدف وأن التوافق صار خطرا عليه وحتى على تونس بحجة ما يصفونه بالتوازن والقصد بين جبهته والإسلاميين. ولا بد من سيناريو يحقق الغرض في الانتخابات المقبلة. وحتى لو تصورنا السبسي قد غفل عن مسألة السن فإن المسؤول الكبير ليس غافلا. ومعنى ذلك أني أجزم من الآن أن السبسي لن يترشح وأنه بهذه المسرحية قد اختار “الدوفان” والهجوم على ابنه هدفه بيان أن القضية ليست عائلية بدليل ما بين الابن والشاهد من خلافات جوهرية في الظاهر. ولا يصدق ذلك إلا ساذج. وبذلك تتحقق مصلحة المسؤول الكبير دون المس بمصلحة السيسي أو المسؤول الصغير حماية لابنه لأنه من الغفلة توهم السبسي “يبلع” حماية النهضة لابنه بعد غياب عينه. لن يحميه إلا الشاهد كما سيتبين بعد أن تنتهي المسرحية لإظهار الرجل وكأنه يقدم مصلحة الدولة على مصلحة الحزب والأسرة. ولا بأس من اتهامي بمخيال “نظرية المؤامرة”. لكن كل من يحسن الملاحظة يدرك أن ما يجري لا يمكن أن يصدقه عقل. لا يمكن أن يخطب لشاهد تلك الخطبة ذات المنظور السامي لو لم يكن لديه ضوء أخضر من الرئيس ومن رئيس الرئيس (أو بمصطلح الرئيس المسؤول الكبير) باسم الخوف على الدولة والحزب. لكن بقي موقف النهضة ملغزا: 1. فإما هي دارية باللعبة وقبلتها مرغمة لأنها لا تستطيع منها فكاكا فالمسؤول الكبير يأمر الجميع ولعلهم قدموا لها وعودا كلها واهية لأن دفعها لمعادات الاتحاد خطر عليها فهو يضعها مع ما فقدته من قاعدتها وما لم تحصل عليه من الأحلاف الممكنة في مثل هذه المعارك. 2. أو هي مصدقة نفسها ومتوهمة أنها ممسكة بالخيوط كما يحاول الإعلام المغالط إيهام قياداتها بما يدعم الاستغفال الضروري لتمرير الطعم. وعلى كل فلا يمكن أن أتخيل لحظة واحدة أن الثورة المضادة التي تمول الانقلابات والحروب في بلاد الربيع بعيدة عن هذه اللعبة: فالأمر بين. ومن يتابع بعض الحركات يرى أن المنشقين من النداء (حزب مرزوق) بدأوا يفاوضون من بقي فيه للعودة إليه وأن اليساريين بلعبة الاتحاد الذي يدعي الحرص على المؤسسات الوطنية هم بدورهم يستعدون لنفس اللعبة وهي الجمع بين قطبي جبهة الإنقاذ من الإسلاميين وليس من الأزمات الاقتصادية أو السياسية. وإذا كان الموقف علته الفرضية الأولى فيمكن اعتباره حكيما رغم نقائصه لأن العاصفة تتجاوز إمكانية حزب محلي ليس له سند قوي لا في القطر ولا في الاقليم ولا خاصة في العالم. لكن إلى متى؟ إلى متى يبقى من الحكمة القبول بالأمر الواقع خوفا من التجربة السابقة إلى حد الوقوع في تجربة أفدح؟ ومع ذلك فعندي أن هذه الحالة أقل خطرا من الحالة الثانية التي يكون فيها قيادات الإسلاميين متوهمين أنهم متحكمين في الأحداث ولا يخشون ما يحاك لهم من ضربات موجعة لعلها ليست من جنس ما حدث في بلاد الربيع الاخرى ماديا ولكنها رمزيا وخلقيا لا تقل عنها إيلاما وخطرا. والله أعلم.