أزمة الأمة الوجودية وضرورة المراجعة الجذرية لشروط الانسانية – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله أزمة الأمة الوجودية وضرورة المراجعة الجذرية لشروط الانسانية

في خلال كلامي على أزمة الأمة الوجودية الماحقة في راهن تاريخنا وحاولت وصلها في علاج الأزمات الوجودية بضرورة الوصل بين التذكر والتوقع لم أهمل التلميح أحيانا إلى بعض مظاهرها الاليمة الراهنة وكل ما تقدم عليها بين الفتنة الكبرى والفتنة الصغرى كان من جنسها.

فاكتشفت أن علوم الملة وأعمالها لم تكن مستندة إلى تبين حقيقته كما أمر بل كانت الابتعاد عنها بسبب التفاتهم إلى ما أمر بتجنبه والتفاتهم عما أمر به: أداروا ظهرهم لشروط الاستعمار في الارض شرطا في الحماية والرعاية وولوا بوجوههم إلى ما نهاهم عنه فعطلوا الدستورين وأهملوا الحريتين.

ذلك هو تشخيصي للأزمة الناتج عن الانطلاق من الأزمة الوجودية في حاضرها بوصفها تقييما لما نتجت عنه من نظر وعمل لا يعتمدان على دستوري القرآن بل ينتجان عن تعطيلهما. لكن ذلك لا ينتج عن تقييم الماضي إلى حدود لحظة الحاضر بل هو تقييم للمستقبل انطلاقا مما بينه الحاضر من شروط الاستئناف.

فالحاضر ليس مقصورا على الأزمة الوجودية الخاصة بالمسلمين بل هي أزمة كونية: فالحريتان الروحية والسياسية كلتاهما لم يبق منهما فيما يسمى بالعولمة إلا الاسم. ذلك أن ما كان يحول دوهما باسم دين الآخرة بات له جنيس يحول دونهما باسم دين الدنيا: دين العجل الذهني بذهبه وخواره.

وما كان وهما يستعمله موظفو دين الآخرة أعني وسطاء كنسية دين الآخرة وأوصياء الحكم بالحق الإلهي أصبح وسطاء كنسية دين الدنيا وأوصياء الحكم بالحق الطبيعي يستعملونه والأولان يفعلان باسم السعادة الأخروية وهؤلاء باسم السعادة الدنيوية وكلتا السعادتين مجرد وعود يستمدان منها سلطانهما.

وبهذا المعنى فالاستئناف للخروج من الأزمة الوجودية ليس حاجة إسلامية فحسب بل هي حاجة كونية تماما كما كانت الحال عندما نزل القرآن أول مرة: فقد كان شعاره تحرير العباد من عبادة العباد لجعلهم لا يعبدون إلا رب ا لعباد هذا لا يتم من دون الحريتين ولا ترعى الحريتان من دون علاج العلاقتين.

تلك هي حقيقة الأزمة الوجودية في الأمة وفي الإنسانية: فهي الفصل بين شروط الاستعمار في الأرض وشروط الاستخلاف فيها. والمعلوم أن المسلمين ظنوا أن هذه ممكنة دون تلك فكان ما نرى لا هم على أخلاق الاستخلاف ولا هم قادرون على الاستعمار في الارض. لكن العكس ممكن.

فالعولمة هي النجاح في الاستعمار في الارض ولكن بنسيان أخلاق الاستخلاف والاستعاضة عنها بأخلاق التاريخ الطبيعي الذي يخضع لقانون المنطق الجدلي والصراع الوجودي الدائم من أجل اللامتناهي الزائف أي مادة العجل وخواره: سلطان البنك والايديولوجيا للتحكم الروحي والمادي.

وتلك هي علة كلامي على الفتنتين الكبرى والصغرى: فالأولى كانت من حيل من أعاد الوساطة الروحية والوصاية السياسية باسم دين الآخرة (التشيع) والثانية عوضتها بالوساطة الروحية والوصاية السياسية باسم دين الدنيا (العلمانية) والسنة تابعة في الحالتين بالأفعال مع الإيمان بالحريتين بالأقوال.

واليوم التقى أصحاب الفتنتين على المسلمين ليحولوا دونهم والاستئناف. والعلاج هو في معرفة استراتيجيتهم في منع الاستئناف وابداع استراتيجية فاعلة لئلا نكتفي برد الفعل عليها فنكون دائما متأخرين بمعركة مع الاعداء فنخسر الحرب. ولأعد الآن إلى المراحل الخمس التي اشرت إليها في الفصل السابق.

فلنرسم هرما قمته القدرة بوجهيها الملتفت إلى ما بعدها في قائمة مقومات الوجود الإنساني الفردي والجمعي أي إلى الحياة (الذوق) والوجود (الرؤية) والمتلفت إلى ما قبلها في نفس القائمة أي إلى العلم (النظر) والإرادة (السياسة) فتكون العناصر المتلفت اليها هي قاعدة الهرم في قيام الحضارات.

فالقدرة التي هي القمة هي حاضر الفرد والجماعة وهي قوتهما الفعلية وهي ثمرة كل الماضي لكن فيها قوة بالقوة هي قوتها التي ما تزال في غيب الإمكان وقد تكون ثمرة المستقبل. وبهذا المعنى فالالتفاتان جنيسان لما حاولنا بيانه في كلامنا على أزمة أي علم وأزمة عندما يشرع أصحابه في الاستئناف.

الاستئناف عملية تشخيص للأمراض أو لعلل الأزمة وتخطيط لاستراتيجية الخروج منها بمراجعة خلل الماضي بما على المستقبل أن يتداركه وأن يتجنب نظائره. وعندما نطبق ذلك على هرمنا نجد أن الالتفات إلى الحياة والوجود هو الالتفات إلى غاياته ودوافع الفعل فيه: وهو يحدد مثل الجماعة العليا.

وهذا الالتفات إلى الغايات في قاعدة الهرم أعني الحياة (الذوق) والوجود (الرؤية) يصلهما بالأدوات في قاعدة الهرم أعني العلم (المعرفة) والإرادة (السياسة) فيكون الهرم حينها عاملا بمخمس سوي هو الوجه الاسترمازي الحاكم في مربع القاعدة: بجعل الحياة والرؤية غايتي الوجود والعلم والسياسة أداتيه.

وعندئذ يحقق الإنسان فردا وجماعة مقومي وجوده أعني الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف فيكون المقوم الأول أداتي والمقوم الثاني غائي: ومعنى ذلك أن العلم والسياسة يحققان شروط قيام الإنسان المادي بعلاج العلاقتين العمودية (مع الطبيعة) والأفقية (مع التاريخ) من أجل غايات سامية ذوقا ورؤية.

وعندئذ لا تصبح القدرة بوجهها الثاني (القدرة المادية وهي أساسا المال) هي المسيطرة رغم ضرورة وجودها كأداة وليس كغاية فيتحرر الإنسان من عامل العبودية الأساسي لفاقديه حتى لا يصبح تابعا لواجديه. ولهذه العلة فكل الفروض الخمسة في الإسلام مشروطة بالضروري منه فيها كما بينت في غير موضع.

وهذا الوجه الثاني من القدرة يكون أداة ضرورية ولا معنى لمن يدعي التخلي عنه دليل تقوى بل هو دليل استعداد للعبودية عند من يجعله غاية لذاته وأداة لاستعباد فاقده. وهو الانتقال إلى دين العجل الذهبي. وذلك يعني أن من لا يفهم معنى الزهد هو من يتخلى عنه بدلا من التخلي عن عبادته.

فلا لمعنى لزاهد فيما لا يملك. فمن أضاع الدنيا أضاع معها الآخرة لأن ما فيه من بعد طبيعي سيفرض عليه الخضوع لقوانينها وحينها سيبيع دينه ليعيش وتلك حال التابعين دائما لما يستتبعهم بالسلطان على حاجاتهم الطبيعية حماية ورعاية. وكل كلام على الاخلاق بنفي الدنيا كفر بالآخرة فنفيها مستحيل.

والإسلام لا يدعو لنفيها بل يدعو للسلطان عليها حتى لا يكون لها على الإنسان سلطانا. ولا سلطان عليها إلا بالاستعمار فيها بقيم الاستخلاف. وتلك هي حقيقة العلاقة بين السعادتين في الإسلام. ولأن العلم الزائف خلط بين الفقر المادي والفقر إلى الله ظن هذا مشروطا بذاك والعكس هو الأصح.

الزهد ليس الفقر بل تجاوزه إلى ما يغني عن التبعية لأصحاب المال. هو إذن سلطان على المال بالسلطان على الحاجة إلى أصحابه. ولا يمكن الاستغناء عن الحاجة إلى أصحابه إلا بأن تكون من أصحابه الذين سموا إلى معنى الفقر إلى الله: فالفقير للحاجة الدنيوية لن يفهم الحاجة الروحية فقرا إلى الله.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي