لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهأزمة الأمة الوجودية وضرورة المراجعة الجذرية لشروط الانسانية
هذا الهرم تجسيم للمعادلة التي حكمت ما حدث من بداية ما مضى كما يتبين من أحاديثه عن أحداثه (علوم الملة) إلى الحاضر كما يتعين في الأزمة الوجودية التي بمقتضاها صارت الأمة مستعبدة مرتين مباشرة بحماة نخبها المستبدة والفاسدة وبصورة غير مباشره بحماتهم وأذرعهم في الاقليم. وهي صارت مستبعدة على هذا النحو بعد أن حصل الانقلاب على الدستورين وإلغاء الحريتين خلال فرض ما يشبه حالة الطواري والحكم والتربية بالقوانين الاستثنائية في النظر والعمل ما آل إلى “فساد معاني الإنسانية” فأصبحت الجماعة جماعة عبيد لا حرية روحية لهم ولا حرية سياسية. وبالتدريج تضاءلت قدرة الامة على علاج العلاقتين بالطبيعة للاستعمار في الأرض وبالتاريخ للاستخلاف فيها فأصبحنا مغلبين لكل متغلب وأكلة لكل آكل تستباح أراضينا وأعراضنا وما نراه اليوم ليس إلا عينة مما كان لا بد أن يحصل منذ قرون: صارت بلادنا ممرا لكل غاز ومستقرا لكل طامع ونحن مستسلمون. وآن أوان الاستئناف بفضل ثورة الشباب بجنسيه: أعادوا الرؤية والحياة والوجه الاسترمازي للقدرة فأصحبت المثل فاعلة من جديد وعاد الطموح للأمة وهي مستعدة لكل التضحيات من أجل الاستئناف. لكن للاستئناف شروط سأحاول تحديديها في هذا الفصل الاخير حتى تكون أهداف ثورة الاستئناف الكبرى. أول شيء ينبغي أن نفهمه أن الهرم صار يعمل بعكس الاتجاه المحمود: فبدلا من عمله بالتفاته الذي يجعل الغايات هي المحددة عكس الالتفات فجل الأدوات هي المحددة وهي التفات القدرة المادية إلى العلم والسياسة كغاية تجعل التفات القدرة الروحية إلى الذوق والرؤية تصبح آداة لإخفاء المحرك الفعلي. وبذلك تتساوى الفتنة الكبرى (الوساطة الروحية والوصاية السياسية باسم الآخرة) مع الفتنة الصغرى (الوساطة الروحية والوصاية السياسية باسم الدنيا) فنكتشف أن ما كان يقدم على أنه قيم إلهية كان غطاء لدين العجل تماما كما يفعل هذا الدين بقيم حقوق الأنسان: خداع لمنع الحريتين الروحية والسياسية. لذلك كان النقد القرآني لتحريف السلطتين الروحية والزمانية للديني في الأديان -وهو موضوع سورة آل عمران خاصة-هو تحويلها إلى دين العجل في الافعال وحقيقة مقاصد السلطتين مع التظاهر بأنها الديني وهي نقيضة مقاصد الديني. فتكون الفتنة الصغرى جوهر الفتنتين كبراهما وصغراهما. حرفت القيم في الحالتين وستر التحريف بنسبته إلى قيم الله ثم نسب إلى قيم الإنسان. لكن النسبتين توظيف إيديولوجي لصالح السلطتين لأن غايتهما هي مادة العجل وأداتهما هي خواره. لذلك كان الرمز موسى وعلاقته ببني إسرائيل: أراد تحريرهم من العبودية فوضعوا دين العبودية الكونية: دين العجل. ومنذئذ تحدد عدو الديني في الاديان أو ما يحرفه أصحاب السلطانين الروحي والزماني سواء كان هذا الدين أو المرجعية باسم الله قبل العصر الحديث أو باسم الإنسان بعده. وهذان هما الفتنتان اللتان تحالف أصحابهما على الإسلام لأنه على الاقل في حديث أهله إم لم يكن في أحداثهم ما زال يرفضهما. ولا يمكن أن يصبح لهذا الرفض معنى ما لم تتحرر الأمة من تعطيل الدستورين والتخلص من القوانين الاستثنائية التي عللوها بالضرورات التي تبيح المحظورات: فما أباحوه باسمها هو الذي أنتج هذه الضرورات. فعندما تفسد التربية يفسد الحكم في الجماعة ينتج عنهما فساد معاني الإنسانية. وهذا التخلص ليس تولدا طبيعيا بل هو ثمرة القدرة الراهنة -في الحاضر-التي تنتج عما أدت إليه الأزمة الوجودية بوصفها مراجعة الأمة لذاتها ذات الالتفاتتين للماضي بحدثه وحديثة لتحدد ما أخففت فيه ويحدد بالعجز عن سد حاجات الحاضر وللمستقبل بحديثه وحدثه لتضع استراتيجية تحقق ما تتوقعه من حاجات. وبذلك نعود إلى هرمنا: فقمته هي هذه العلاقة بين القدرة الموجودة بالفعل والقدرة المنشودة وهي قدرة بالقوة بمعنى أن الأمة تدرك المسافة الفاصلة بين موجودها ومنشودها في ضوء التقييم الذي نتج عن الالتفاتين وهو ما يحصل في كل أمة حية تعيش أزمة وجودية فتشخصها وتعالجها بثقة في النفس. والمراجعة بالتفاتيها لها مستويان يمكن أن نسمي أحدها ذاتيا لمقومات كيانها والثاني إضافيا إلى علاقات غيرها بها لأن أفضل طريقة لفهم مواطن الضعف لدى الامة هي ما في هذه العلاقة من خلل التناسب بين الأبعاد التي تتألف منها القدرة أعني عناصر قاعدة الهرم الأربعة. التقويم مضاعفة لكن موضوعه واحد: هو قاعدة الهرم وسفوحه الاربعة التي تصل القمة بها زوجين اثنين في وجوه السفوح الأربعة عند لقائها القاعدة: وقد رأينا أمس اللقاء المتلفت إلى الحياة (الذوق) والوجود (الرؤية) وكيف يمثل هذا السفح الالتفات إلى المستقبل لأن معين القدرة الوجودية هو هما. وهما معين القدرة الوجودية المحددة لعنفوان الأمم لأن الحياة تعني نوعي ذوق الوجود الذي يمكن أن نرمز إليه فن المائدة وفن السرير أي بالأكل والجنس. فهما مصدر القوة العضوية لأي جماعة بل هما جوهر العلاقة العمودية بالطبيعة. وهذا المستوى العضوي يسمو في رؤية الوجود وهي استرماز الحياة. والرؤية الوجودي التي تسترمز الحياة ببعديها أي فن المائدة وفن السرير هي التي تعود على الذات فتميز بين الموجود والمنشود وذلك هو جوهر الرؤية المستقبلية في كل جماعة وتترجم هذه القدرة المستقبلية في أداتيها أو سفح الهرم الثاني المقابل: فعل النظر العلمي وفعل العمل السياسي لتحقيق المنشود. وهذا هو جوهر الاستعمار في الارض الذي هو شرط ضروري غير كاف لتحقيق قيم الاستخلاف. ومعنى ذلك أنه يمكن أن يتحول إلى إخلاد إلى الارض كلنا يعلم كيف يصف القرآن اصحابه وهو يشير إلى خاصية رمزية مهمة وهي الأكل أكل الأنعام: علامة الاستعمار بغير قيم الاستخلاف النكوص إلى الحيوانية. ويبقى للهرم سفحان آخران: وفيها تلتقي القمة التي هي القدرة في القاعدة مع الحياة والعلم عندما تلتفت يمنة ويسرة وهي في لحظة الحاضر بين الماضي حدثه وحديثه وبين المستقبل حديثه وحدثه إذ أن لحظة الأزمة الوجودية يحصل ما يشبه تلفت الرسول الأكرم في أزمة تحديد القبلة: تنفتح الآفاق. تنفتح الآفاق اللامتناهية للأمة في مستوى الدافع (الحياة) وأداته الأنجع (العلم) فتصبح للسياسة التي هي عمل على علم في الحكم والتربية رؤية وجودية تتجاوز الإخلاد إلى الارض وتسمو بالإنسان إلى ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ لأنه لم يعد رهن المحبسين: وهذا المنتظر للاستئناف. فيكون ما نطلبه في المراجعة للخروج من الأزمة الوجودية هو جواب القرآن الكريم للرسول وهو يبحث عن القبلة: أينما تولوا فثم وجه الله. وهو وجهة الأمة الشاهدة. الآفق التاريخي لهذه الأمة هو الكونية وتجاوز القبلات التي لها بعد قومي أو عرقي أو طبقي لأن الغاية هي تحرير الإنسان روحيا وسياسيا. فيتبين أن قمة الهرم أصل له فروع أربعة هي رؤوس اضلاع المربع: الحياة (الذوق) والوجود (الرؤية) وهما مستويا الوجود الفعلي والرمزي لكيان الإنسان إذ هو حي يرى ذاته في الوجود وتلك هي عودته على ذاته أو وعيه الوجودي بمعنى أن كل فرد وكل جماعة بنخبها لها رؤية لذاتها نابعة من ذوقها الوجودي. وهذا هو الينبوع الذي جف أو نضب بمفعول ما سد ممرات سيل الحياة ونسغها في عروق الأجيال المتوالية وعلينا نبطه كما أسلفت. وعندما ينبط ينبجس ماء الحياة في العروق فيعمل بعدا السفح المقابل من الهرم أعني النظر العلمي والعمل السياسي أداتي فعل الحياة والرؤية: وتلك علامة حياة الأمم. لكن هذين الالتفاتين على السفحين المتقابلين من الهرم نزولا من القمة (القدرة) إلى تجليات الدوافع منها وتجليات الأدوات منها لا يكفيان بل لا بد من علاقة مباشرة بين الحياة والنظر العلمي لحدل مشكل العلاقة العمودية بالطبيعة لأن فن المائدة وفن الجنس من دون علم ينكصان فيخلدان إلى الأرض. والسفح المقابل لسفح هذه العلاقة هو سفح العلاقة المباشرة بين الرؤية الوجودية والسياسة: فمن دون العلاقة المباشرة بين الغاية الرؤية والأداة السياسة لا يمكن لأي أمة أن تحقق منشودها انطلاقا من موجودها. فتجمد. وذلك هو معنى الازمة الوجودية التي أتكلم عليها: قاعدة الهرم أصل السفوح الأربعة. وبذلك يتبين أن مفهوم القدرة مفهوم شديد التعقيد هو قمة الهرم وهو سر القوة المادية والرمزية وقوة الدوافع وفاعلية الادوات وهو معادلة الوجود الفردي والجمعي رغم أنه كذروة وجودية يبدو نقطة التقاء المقومات الاربع الأخرى لكنه يشبه الشمس بالقياس إلى توابعها. وما هذا إلا مثال هندسي. وهو مثال هندسي يغنيني عن الكثير من الكلام الذي لا يمكن متابعته بيسر لفرط تجريده من دون تعيينه تعيينا شبه ملموس ويكفي القارئ أن يرسم الهرم وأن يكتب عليه أسماء ملتقى أضلاع القاعدة الأربعة ليحدد ما يتفرع عن الأصل أو القدرة فيفيهم بيسر تعقيد العلاقة بين تعمير الارض والاستخلاف فيها. وليسقط القارئ قطعة مستقيم من قمة الهرم إلى مركز القاعدة حيث يلتقي القطران الواصلان بين الحياة والسياسة وبين العلم والرؤية ليرى ماثلا أمامه علاقة القدرة بما يتفرع عنها وبما تنتج عنه من مقومات وجود الإنسان والجماعة أعني الحياة (الذوقي) والوجود (الرؤيوي) والإرادة (العملي السياسي) والعلمي (النظري المعرفي) فيرى بالعين المجردة كيف تعمل حياة الأمة لتكون مبدعة لذاتها بفواعل دافعة من حياتها (ذوقها)ووجودها (رؤيتها لذاتها) ضمن المعادلة الوجودية التي تتألف من علاقة مباشرة بين الإنسان ومثاله الأعلى (الله) وغير المباشرة بعالميه الطبيعي والتاريخي وما ورائهما. وما وصفته بالأزمة الوجودية هو تعطل كل هذه الوظائف المقومة لكيان الفرد والجماعة لكأننا وقعنا في سبات عميق والتاريخ يجري من حولنا دون أن يكون لنا فيه سهم ثم استفقنا في لحظة كونية البشرية فيها على عتبة تحديد نظام عالمي جديد نحمد الله أن شبابنا بجنسيه كر كرة النشأة الأولى فاستأنف. فمسقط العمودي من القمة(القدرة)في نقطة تقاطع القطرين الواصلين بين حدي السفوح الأربعة يعين قلب المعالة المقومة لكيان الفرد مجتمعة فيه ولكيان الجماعة ممثلة بالنخب التي تغلب عليها تلك المقومات هو قلب التاريخ: دور الأمة ومنزلتها في التاريخ=قدرتها بالفعل (الماضي) وبالقوة (المستقبل). فإذا تمكنت من إفهام شباب الثورة بجنسيه هذه المعادلة البسيطة لشروط الاستئناف أكون قد وفيت بما وعدت به نفسي واعتبره واجبي ليس بصفتي باحثا في الصوغ الفلسفي لمعادلات العلية الذاتية لتكون الحضارات (كاوزا سوي) بل وكذلك بوصفي محاولا قراءة القرآن كما يعرف ذاته دون خوض في الغيب.