أزمة الأمة الوجودية وضرورة المراجعة الجذرية لشروط الانسانية – الفصل الأول

أزمة الأمة الوجودية وضرورة المراجعة الجذرية لشروط الانسانية

تمكنا في فصول النبط السبعة من بيان شروط الاستئناف أو بصورة أدق من تحديد طبيعة الأزمة الكبرى التي تفرض إعادة التأسيس. وسبق أن تكلمنا على زيف علوم الملة وعملها دون أن يعني ذلك أننا ينبغي أن نضرب صحفا عنها لأن صفائح التاريخ الروحي والسياسي مثل الجيولوجيا تتراكب وتتخاصب بتفاعلها.

وقد بينا في النبط أن الأزمات الكبرى تحصل عندما يصل الاسترماز إلى العجز عن تفسير ما أبدع من أجل تفسيره وتيسير التعامل معه. لذلك ضربنا مثال أزمات المعرفة العلمية وكيفية خروج العلم أي علم من أزمته بإعادة النظر في مبادئه المؤسسة في ضوء الأزمة الراهنة أو الوعي بانسداد أفق المستقبل.

ولهذا اعتبرنا الفكر دائم الالتفاتين إلى اقصى بداياته ماضيا وأقصى غاياته مستقبل وأن حاضره بهذا المعنى يحيط بماضيه تذكرا وبمستقبله توقعا. ومن ثم فالحاضر في الاسترماز أو في الأحاديث أوسع من الحاضر في الأحدث. ولما كان الاسترماز حديث وعودته على نفسه حديثا فهو عودة الوعي الدائمة.

وهذه العودة الدائمة على الذات هي حياة الفكر والروح. فإذا اعتبرنا مسألة الاستئناف في هذه الحالة لا تقتصر على النظر ودستوره وحدهما بل هي تشمل العمل ودستوره فإن الأزمة شاملة لكل الكيان الحضاري من حيث إن حياته هي هذا العود الأبدي على الذات في النظر ودستوره وفي العمل ودستوره.

وغاية الكلام في الامر هي أن الماضي يبقى حيا مع تغيير طبيعة الحياة: كان حيا كفعل وسيصبح حيا كموضوع فعل. واقصد أن علوم الملة كان علما يفعل وينبغي أن تصبح موضوع تاريخ العلم الذي كان يفعل ولم يعد قادرا على الفعل. ومعنى فعل العلم هو علاج العلاقتين العمودية والافقية.

طبعا يمكن لجماعة أن تبقي على العمل الذي لم يعد قادرا على الفعل المناسب للحظة التي تقتضي علاجا معينا للعلاقتين العمودية بالطبيعة والافقية بالتاريخ لكنها تكون قد اختارت أن تبقى خارج عصرها كأن تحارب بالسيف والخيل من يحاربها بالصواريخ والطائرات: علاج العلاقتين يحدد عمر النظر والعمل.

وهذا يعني شيئا آخر أهم وهو أن المرحلة الحالية من العلم والعمل ليست هي بدورها مرحلة نهائية بل هي بلغة ابن خلدون لحظة من التاريخ المديد سيتم تجاوزها كما تم تجاوز التي سبقتها والتي كانت موضوع نقدها التجاوزي. والثابت الوحيد هو علاج العلاقتين دائم التطور البطيء والفجئي عند انسداد الأفق.

وانسداد الأفق في علاج العلاقتين بالطبيعة وبالتاريخ علته جمود ينتج عن الاكتفاء بالموجود والغفلة عن المنشود أو توقف المراجعة الدائمة بالالتفاتين في النظر والعمل وفي التربية والحكم أي وجهي السياسة التي هي في آن علاج للعلاقتين العمودية والافقية بالعلم والعمل على علم فرديا وجماعيا.

ومثلما أن علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة تفترض أن للطبيعة حقيقة ثابتة هي غاية بحثنا العلمي وسعينا العملي وأن المتغير هو رؤيتها في هذين السعيين فإن العلاقة الافقية مع التاريخ تفترض أن لتاريخ حقيقة ثابتة هي غاية بحثنا العلمي وسعينا وأن المتغير هو رؤيتا في هذين السعيين كذلك.

وهذه الرؤية المضاعفة للطبيعة وللتاريخ تتغير دون أن تكون عديمة الثوابت: وهذه الثوابت تبدو وكأنها القبلي في كل نظر وعمل. وهذا القبلي إذا نظر إليه في ترجمته الرمزية هو تأويل الرؤية لما يعتبر عين مقومات الذات الإنسانية كماتعي ذاتها في العالمين بما ورائهما عقيدة تصاغ فلسفيا أو دينيا.

وقد حاولت أن أصوغ هذا الثابت الذي هو واحد ممثل للديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات وسميته المعادلة الوجودية التي لا تخلو منها حضارة والتي اعتبرها الإسلام بنية كونية هي عين مقومات الإنسان أو فطرته المشدودة إلى مثال أعلى مباشرة وبتوسط العلاقتين بالطبيعة والتاريخ وماورائهما.

وهذه المعادلة هي المضمون الثابت للرؤية الدينية في كل دين والرؤية الفلسفية في كل فلسفة مهما تطورا لأن تطورهما يتعلق باسترمازهما أو بتأويلهما الذي يتعين في رؤى رامزة لمرحلة الوعي الإنساني بهده الثوابت التي هي عين مقومات وعيه وكيانه مستعمرا في الارض ومستخلفا فيها.

وذلك هو الينبوع الذي علينا نبطه لتسريح السيل المتدفق منه نسقا لحياة الفكر والروح في النظر والعمل المتجددين دائما إذا كانت الأمة محافظة على عنفوان أجيالها دون وساطة روحية ووصاية سياسية تقضي على القدرة الخلاقة لدى شبابها بحكم وتربية عنيفين هما علة فساد معاني الإنسانية فيها.

وهذا هو فعل الإشارة أو توجه السبابة القرآنية التي تتضمن القبلي الديني والفلسفي في الفلسفات الخمس: فلسفة الدين وفلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر وفلسفة العمل. وكلها ترد إلى القطبين الله والإنسان وطبيعة العلاقة بينهما تقال دينيا في الإسلام او فلسفيا في تأويلاتها العقلية.

فيكون القبلي أو الديني في كل دين والفلسفي في كل فلسفة هو هذه العلاقة المباشرة التي تجعل الإنسان مشدودا بين موجوده ومنشوده. فأما موجوده فهو كيانه الطبيعي التاريخي في ذاته وفي آفاق وجوده وأمما منشوده فهو ما يجعله دائم الحفر في علاقته بما وراء مقومي كيانه ومقومي أفقيه طبيعة وتاريخا.

وكل من يقرأ القرآن ببصيرة لن يجد فيها غير ذلك. وذلك فهو نص فلسفي بالأساس. والديني فيه متحرر تماما مما انتبت عليه الاديان الاخرى أعني من المعجزات التي تخرق النظام الطبيعي (رياضي تجريبي) والتاريخي (سياسي خلقي) دون أن يجادل في المعجزات الأخرى حتى وإن اعتبرها للتخويف.

وتلك هي علة عسر تبليغ الرسالة الخاتمة: ففي مجتمعات تعودت على الإعجاز المعتبر من علامات النبوة أعني خرق العادات من الصعب القبول برسالة محمد رغم تسليم معاصريه بكونه صدوقا. وأنا شخصيا اعتبر تصديقه في ذلك العصر هو من المعجزات: لأن رسالة بلا معجزات تعتبر خرقا للعادة.

لكن مناخ الأديان التي تعتمد على معجزات من جنس خرق النظام أو العادة كان شديد التأثير وعقدة المسلمين في البداية إزاء الأديان التي كانت معلومة جعلتهم يملؤون -وخاصة بعد أن سيطر الكذب الصوفي والباطني -بالخرافة التي لم يأت الله بها من سلطان: ولو صحت لما اجتهد الرسول أو جاهد تاريخيا.

فتكون نسبته إلى فلسفة الدين وفلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر وفلسفة العمل عين نسبة الطبيعة والتاريخ والنظر والعمل بما هي موضوعات الفكر الإنساني: كلها نعتقد أنها ذات ثوابت هي ما يوجه إليه القرآن فكر الإنسان وروحه: فهو يعلمنا بطبيعة النظام فيها جميعا ويدعونا لطلبه منها

فهو يقول إن نظام الطبيعة رياضي تجريبي ويقول إن نظام التاريخ خلقي سياسي ويقول إن نظام النظر إدراك حسي مؤول عقليا ومسترمزا ويقول إن نظام العمل انجاز مبني على وعي نظري أو تدبر لنظم الطبيعة نظام التاريخ بنظام النظر ويجعل ذلك كله رهن وعي الإنسان بحريته وكرامته.

فكان القرآن سبابة تشير إلى ما يحتاج إلى التذكير وهو يسمي نفسه التذكير الاخير أو الرسالة الخاتمة بما يشبه النداء الأخير قبل أن تقلع الطائرة الإنسانية نحو المستقبل ما يعني أن القرآن كان شبه خاتمة لتاريخ الإنسانية المبني على نسيان حقيقة الإنسان معمرا ومستخلفا وشرطهما الحريتان.

فأما الحرية الاولى فهي الروحية التي تلغي كل وساطة بين الإنسان وربه. وأما الحرية الثانية فهي السياسية التي تلغي كل وصاية بين الإنسان وأمره. لكن المسلمين نكصوا صراحة في التشيع وبنفاق في التسنن: التشيع أعاد الوساطة والوصاية أساسا لرؤيته الدينية والسنة أعادتها في الأفعال دون الاقوال.

وحجة السنة مضاعفة: أولاهما كذبة العلماء على الانبياء لما ادعوا وراثتهم فيما لا يملكون. النبي لا يعلم الغيب. قراءة آل عمران 7 بجعل الراسخين في العلم مستثنين مما تحذر منه كذب على النبي وعلى القرآن. لا يوجد غير الله قادرا على تأويل المتشابه. ومن ثم فالعلم لا يتوسط بين المؤمن وربه.

والثانية كانت الضربة القاضية على الدستورين وهي حجة الضرورة التي تبيح المحظور. فتعطيل الدستورين أو الحريتين الروحية والسياسية معقول إذا كان مؤقتا كما يحدث في حالات الطوارئ. أم أن يصبح إضفاء للشرعية على مبدأ التغلب بديلا من الحق الإلهي في الحكم عند الشيعة فخروج عن دستور القرآن.

وقد نتج عن ذلك المفهوم المشوه لولاية الامر التي هي ولاية العلماء النافية للحرية الروحية لأنها وساطة وولاية الامراء النافية للحرية السياسية أنها وصاية. وكلتاهما مجانسان للخيار الشيعي أي الوساطة والوصاية المعصومتين عقدا وهما عند السنة مفروضة عنفا لا عقدا.

وما هو تحريف صريح عند الشيعة يمكن اعتباره تحريفا خفيا عند السنة: كلا المذهبين حرف مبدأ الحرية الروحية ومبدأ الحرية السياسية والشيعة اعتبروه من العقيدة والسنة اعتبره من الضرورة التي تبيح المحظور فعاشت الامة في حالة طوارئ دائمة منذ أربعة عشر قرنا. وتلك هي الازمة التي تقتضي المراجعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي