أخلاق العبيد، أو تشخيص أمراض النخب العربية – الفصل الثاني

**** أخلاق العبيد أو تشخيص أمراض النخب العربية الفصل الثاني

وإذا كانت النخبة السياسية هي ما وصفنا، وهي أردء تمثيل للإرادة لأنها معكوسة تماما، إذ لا تمثل إرادة الجماعة بل إرادة من نصبها عليها لتكون ذراع الاستعمار غير المباشر بالقوة المادية للمحمية، فإن النخبة الرؤيوية (نخبة النقل والعقل بالمعنى التقليدي) تمثل نفس الشيء ولكن بالقوة الرمزية.

والنخبة السياسية تحتاج إليهما بنفس القدر، وهي نخبة عبودية من المستوى الثاني أي إنها تابعة للنخبة السياسية التي هي تابعة لمن نصبها على الجماعة. فهي تختار أدواتها من النخبة الرؤيوية التي تتكلم باسم الأصالة لمخاطبة الداخل ومن النخبة الرؤيوية التي تتكلم باسم الحداثة لمخاطبة الخارج وتستفيد من المعارك الدينية بينهما كلما احتاجت إلى تلهيات أو مناورات من جنس التي يستعملها رئيس تونس بتقرير لجنة التسعة وحملات السيسي لما يسميه هو وطبالوه بمراجعة الخطاب الديني، معارك وهمية تلهي عن المآسي التي يمررونها باسم  التحديث والتأصيل الكاريكاتوريين.

فلنتكلم الآن على هذه النخبة الثانية في بلاد العرب.

لن أتكلم عن المضطهدين من النخبتين، ولا أدعي أنهم بالضرورة يمثلون استثناء في هذا المناخ الذي تفرضه طبيعة المحميات التي “شكلت” لتكون بمقتضى حجمها الجغرافي ومنزلتها التاريخية فاقدة لشروط التنمية المادية والروحية فضلا عن التبعية.

سأكتفي بمن لهم امتياز انتخاب الحكام لهم في الوظيفتين اللتين وصفت، أي لسان المافيات الحاكمة حكم عبيد تابع لمن نصبهم في خطابهم الموجه إلى الشعب والموجب إلى سيدهم الذي نصبهم على المحميات بأصنافه الأربعة أي الذراعين (إيران وإسرائيل) وسيدي الذراعين (روسيا وأمريكا).

وبين أنهم لو كانوا حقا يمثلون رؤى صادقة وفي خدمة شعوبهم، لما اختارهم حكام المحميات العربية ولو كان منهم من صادف أن “مر” في هذا الاختيار وكان من الصادقين ويريد خدمة الشعب، فإن سرعان ما سيزج به في السجن أو سيضطر، طلبا للسلامة، إما إلى السكوت أو إلى الهجرة.

وما أقوله ليس مقصورا على ما أعرفه عيانا في تونس، بل إنه ينسحب على كل بلاد العرب من الماء إلى الماء.

ويكفي أن تذهب إلى أي بلد غير عربي حتى تجد الكثير من هؤلاء الفارين بجلدهم، والذين لو بقوا في بلادهم لماتوا جوعا ولنكل بهم أيما تنكيل، وطبعا لا يعني ذلك أن كل المهاجرين هم من هذا النوع.

وقد اكتملت الصورة منذ أن أصبح سلاح تهمة الإرهاب أو الاخونة أو الإسلام السياسي من أهم ادوات تثبيت الأنظمة العميلة التي تتسابق في قتل كل من يشتم فيه رائحة الوطنية، فضلا عن الإسلامية، أو حتى النزاهة وحب الحرية الفكرية والاستقلال المنظوري في رؤية الأشياء المخالفة لدكتاتور بلده ونخبه.

لكن الاخطر هو التنافس بين التابعين في التعبير عن التبعية:

الكل صار من جنس الشعراء الكدائين في المدح، حتى بلغ ببعضهم إلى وصف اغبى مخلوق حكم مصر-السيسي-بما يقرب من صفات الالوهية، أما صفات الأنبياء فالكثير منهم تجاوزها في مصر على الأقل ومعه ممولو الثورة المضادة.

والشيء الذي تبين لكل متابع، هو أن أدعياء الحداثة صاروا هم بدورهم ينافسون من كانوا يتهمونهم بأنهم فقهاء السلطان صاروا “أفقه” منهم في الطبل والزمر للسلطان.

وإذا كان يوجد شيء يشين القضية الفلسطينية خاصة وكرامة الإنسان العربي عامة فهو “مافية” الإعلاميين العرب في الأوطان والمهاجر.

وهذا هو الجامع بين الكاريكاتورين التحديثي والتأصيلي.

أصبح لنا جامعيتان: وغلبت جامعية التحديث الأكثر تطبيلا.

ففي عهد ابن علي برزت خاصية الجامعية التي تدعي الحداثة، فألفت كتبا تدعي التفلسف وقدمت محاضرات في “حكمة” ابن علي وفي “فلسفته الخلقية” وفي “ثورته الهادئة” وفي حكمة الحلاّقة.

وحكيمة الحلاّقة المسكينة فقدت عقلها نهائيا وصارت تهذي وتحلم بعودة ابن علي علها تشبع رغباتها البدائية التي تعتبرها ثورة فكرية تبشر بتجاوز كل القيم لتعود إلى ما دون المائدة والسرير اكتفاء بما في اصطبل الحمير.

ليست الوحيدة.

جلهن يحلمن بالعودة ويتهمن الإسلام بحرمانهن من جناتهن البهيمية.

فرضت الجامعيتان على العرب طيلة النصف الثاني من القرن الماضي الحرب بين:

  • كاريكاتور التحديث (العسكر)

  • وكاريكاتور التأصيل (القبائل)

فدنسوا الحداثة والإسلام بكل ما يقدمونه بديلا منهما من قشور الحداثة والأصالة، فكانت النتيجة ابقاء العرب خارج التاريخ استثناء في العالم كله.

لكنهم اتحدوا الآن ضد ثورة الشباب بجنسيه فأصبحت الجامعيتان والنظامان العسكري والقبلي متحالفين عليها لمضاعفة الذراعين:

  • بعضهم صار رديفا للذراع الصفوية

  • والثاني للذراع الصهيونية مع الذراعين وسندي الذراعين الذين نصبوهم للحرب على الشعوب التي ثارت ولن تتوقف حتى تحرر الأمة منهم جميعا.

وهذه الوحدة تعني الكثير.

فرغم أنها تبدو أنهم قد جمعوا للثورة وأنهم أقوياء وقد يتغلبون عليها إلا أن التاريخ يقضي بالعكس تماما.

فالثروة الفرنسية رغم انحرافها النابليوني، هي التي انتصرت في النهاية على الحلف المقدس للأنظمة التي هزمتها عسكريا: لكن قيم الثورة فرضت نفسها عليهم بأقدار.

وهم الآن لن يحققوا حتى النصر العسكري الذي حققه الحلف المقدس الغربي ضد الثورة الفرنسية.

ذلك أن أكبر ما يفاخر به العملاء وخاصة دجالو الممانعة هو الخضوع النهائي لإسرائيل وروسيا اللتين ستخرجهم صاغرين وثورة الشباب ما تزال على نفس القدرة للإطاحة بهم ولو بعد حين.

وبخلاف الكثير، فإني اعتقد أن نصر الثورة لو كان سريعا وناجزا لما تجذرت بمعنيي التجذر:

  • فهي تتجذر في مرجعيتها بعد تحريرها من الكاريكاتورين

  • وهي تتجذر في وظائفها بعد تحررها من المطالب المباشرة وانتقالها إلى شروط المطالب المباشرة أعني تجاوز معيقات شروط التنمية المادية والعلمية.

فالموجة الأولى من ثورة الشباب بجنسيه كانت شبه عفوية، لأن شعاراتها على عمقها كانت تعبيرا عن اللاوعي بالمرجعية وبالأهداف. ولم تتدرج في الوعي بهما إلا بفضل هذه صمود الشباب الذي اجبر العالم كله على تأليف حلف ذي وجهين:

  • السكوت على كل المليشيات

  • وتكوين حركات المخابرات التي حاربت الثورة.

ومع ذلك فشلوا، لأن:

  • احتياج النظام لإيران ومليشياتها

  • واحتياج إيران لبوتين وطائراته

  • واحتياج بوتين لتطمين إسرائيل بأنه لن يخرج إلا بعد أن يعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة، أي جعل نظام كلاب دمشق ومليشيا حزب الله حرسا لحدودها كما كان عليه الأمر تحت مسمى “الممانعة”.

أما السيسي وحفتر والحوثيون وكل ما شابههم مع مراهقي الثورة المضادة ومموليها، فقد قيض الله له ترومب حتى يستعملهم بصورة تجعل شعوبهم تصبح في وضع الشعوب العربية الاخرى التي ثارت على انظمتها لأنهم صاروا فاقدين لمن كانوا يرشونهم به من فضلات نهب ثرواتهم والعدوان عليهم.

وبالمناسبة، فقد كنت دائما أدعو إلى جعل مافية ابن علي تعود إلى الحكم في أقرب وقت -ومن هنا معارضتي للألاعيب حزب المرزوقي- حتى لا تتحمل الثورة نتائج ستين سنة من سلوك مافياتهم.

كان مطلبي أن تتبين للشعب خلال عودتهم أنهم ذيل الكلب الذي لن يستقيم،  وستعود حليمة لعادتها القديمة.

وكنت أتمنى لو أن الإسلاميين تركوهم يحكمون وحدهم حتى لا يتحملوا مسؤولية حكم لا سلطان لهم عليه حتى وإن كنت أجد لهم عذرا بعد ما حدث في مصر وما كانوا مهددين به منه تمصير الثورة التونسية، فكان الوجود في الحكم فعلا دفاعيا وليس حبا في الحكم.

ورمزية المشاركة المضطرة لا تعفيهم من المسؤولة.

وفي الغاية، فإن الأنظمة العميلة ومن يتحالف معها من الحزيبات التي تساندها والنخب الرؤيوية بصنفيها لم يعد لها تأثير يذكر، وهو ما جعل الاستعمار غير المباشر الذي يحميهم عاد فصار مباشرا وهو معنى الحاجة إلى تكوين احلاف ومبررات للتدخل ضد إرهاب هم صانعوه:

فضحهم ترومب فسمى حضور جيشه باسمه.

ألم يقل لهم نحن هنا لنحميكم فادفعوا وإلا فأنظمتكم ستتساقط كورق الخريف؟

ويخطئ من يتصور أنه يحميهم من إيران، بل هو يحميهم من ثورة شبابهم بجنسيه.

فإيران نفسها في نفس وضعيتهم: شبابها بجنسيه أصبح يؤمن مثل شبابنا بأنه ضحية أنظمة عميلة إذ لا فرق بين روسيا وأمريكا رغم عنتريات “زورو” إيران.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي