أخلاق العبيد، أو تشخيص أمراض النخب العربية – الفصل الثالث

**** أخلاق العبيد أو تشخيص أمراض النخب العربية الفصل الثالث

رأينا ان نخبة الإرادة (السياسة) ونخبة الوجود (اصحاب الرؤى) كلتاهما فسدت فيهما معاني الإنسانية بالمصطلح الخلدوني أو في خسر بالمصطلح القرآن، وهما يتمثلان البعد المادي والبعد الرمزي من قرار الجماعة المرتهن بإرادة من نصف الحكام الذين انتخبوا أصحاب الرؤية للخطابين الداخلي والخارجي.

نفس هذه النسبة نجدها في النخبتين المواليتين:

  • نخبة العلم (أو نخبة البحث والتكوين) وهي تمثل المعرفة شرطا للفعل المادي خاصة سواء في الطبيعة أو في التاريخ

  • ونخبة الحياة (نخبة الفنون) وهي تمثل الذوق شرطا في الفعل الرمزي خاصة سواء في الطبيعة أو في التاريخ:

سد الحاجتين المادية والروحية.

ومعنى ذلك أن النخبتين الاوليين -نخبة الإرادة ونخبة الوجود-لا يمكنهما أن تفعلا شيئا وأن تحققا دورهما في الحماية والرعاية المادية والروحية من دون أن يكون للنخبتين الثانيتين-نخبة العلم ونخبة الحياة- تحقيق التموين المادي والروحي للجماعة بما يبدعه العلم والفن لتموين الرعاية والحماية.

ولا أعتقد أنه يوجد من يستطيع أن يقول إن هذين النخبتين تنتجان شيئا يسد الحاجة المادية تموينا للجماعة وتكوينا لناشئتها، وهذا تشخيص موضوعي للأمر الواقع لكن ذلك لا يمكن ألا يكون كذلك وإلا لكانت النخبتان الاوليان أولاهما تعبر عن إرادة الجماعة، والثانية عن رؤاها لشروط حريتها وكرامتها.

ولا أحد يمكنه أن يستغرب من كون الجامعات العربية ومراكز البحث فيها من أكبر أكاذيب الأنظمة ونخبها. فهي لا تنتج حتى ما يمكنها من تمويل ذاتها أو من إنتاج ما تحتاج إليه من أدوات تعليم بسيطة لأنها تعيش على العارية، ومثلها الفنون العربية التي هي نسخ مسيخة من أدنى مستويات فلكلور الغرب.

وحتى لا أظلم الباحثين والطلبة والاساتذة فلأذكر العلتين:

  1. الأولى سياسية

  2. والثانية اقتصادية.

  • فأولا النظام الجامعي ليس نظاما حرا، بل هو خاضع للحكم الذي وصفنا وهو إذن مطلق التسييس.

  • وثانيا لا توجد دولة عربية واحدة قادرة على قاطرة البحث العلمي. فحجم المحميات يحول دونه اقتصاديا.

وحتى أدنى درجات البحث، فهي معدومة بحيث إن الجامعات هي مجرد مدارس ثانوية للتعليم الموجود بأضعف الإيمان دون مشاركة في إيجاد المنشود من البحث حتى في اقل البحوث كلفة.

فعادة يتعلم الناس البحث العلمي في التعامل مع الموجود بذهن إعادة اكتشافه بالبحث وليس بحفظه بالتلقين. وهذا أيضا مفقود.

ولذلك علتان:

  1. فاقل الكفاءات منزلة في سلم الاجور هم أهل التعليم بجنسيهم وفي كل مستوياته ما يجعل شروط التفرغ للبحث من رابع المستحيلات

  2. وأقل المؤسسات تجهيزا للبحث هي الجامعات ومراكز البحث وخاصة ما تعلق منها بالوظيفتين الأساسيتين تطبيق المعرفة للإنتاجين المادي والرمزي.

وأبرز مثال الفنون الطبيعة والفنون الزراعية والفنون التقنية حتى في التقنيات التي يكون فيها التجهيز قليل الكلفة ما يعني أن المؤسسات التعليمية لا تتجاوز التلقين القولي شبه الخالي من قابلية الانتقال من النظرية إلى التطبيق في أي مجال يمكن أن يسد حاجات الجماعة المادية والروحية.

ويكفي مثال تداوي الأغنياء والحكام وبطانتهم ومعهم المافيات التي تمثل النقابات خارج الوطن بدلا من تجهيز المستشفيات الجامعية بما يمكن من الاستغناء عن العلاج خارج الوطن وخاصة بالنسبة إلى رجال الدولة الذين من المفروض أن تكون ملفاتهم الصحية من أسرار الدولة.

وهذا يحصل بعد أن بلغ سن الجامعات العربية والمؤسسات الاستشفائية ما يناهز القرن أو أكثر في بعض بلاد العرب.

وإذن فلا تزال المؤسسات التربوية والبحثية ذات ثقافة قولية لا علاقة لها بالبحث العلمي وتطبيقاته في سد الحاجات المادية والروحية للجماعة، بل هي ثقافة عامة لا تتجاوز حفظ عموميات المعرفة.

ولهذه العلة، فجل النخب الجامعية تنقسم إلى مكونين إيديولوجيين وخريجين عاطلين.

فالتكوين لا يتجاوز إنتاج الموظفين، والحط من التكوين المنتج لما يسد الحاجات والخدمات المنتجة.

والمثال أن تونس اليوم فيها ما يقرب من مليون عاطل وحاجة ماسة لعدة أعمال لا تجد من يستطيع ولا من يريد تعلمها.

ولا أعتقد أن الوضعية التونسية فريدة.

فالداء واحد في كل انظمة التعليم العربية بكل مستوياتها.

ما تزال هذه الانظمة تعيش على رؤية تعليمية همها “ثقافة” الاقوال وتزيين الاذهان بالعموميات التي تثقل تكوين الأجيال ولا علاقة لها بثقافة الأفعال من أدناها إلى اسماها القادرة على سد الحاجات.

والفنون كلها ما تزال رعوانية بمعنى أنها لا علاقة لها بالبحث العلمي وغالبها من جنس “الميكانكيين” العاديين الذين يتعلمون صنعة بالمحاكاة في إصلاح السيارات.

ويمكن القول إنها “مواهب” غفلة لم تتجاوز “تعلم الحجامة في رؤوس اليتامى”. فسد الحاجات الروحية في وضع أردء من سد الحاجات المادية.

ويمكن القول إن الفنون العربية ما تزال في مستوى الفلكلور الشعبي عديم التهذيب والذوق أو في مستوى التقليد الممسوخ لما يظن شبيها بالفنون الغربية دون العلم بأن هذه كلها مبنية على نظريات وعلى علوم الذوق الذي فيه ما هو خصوصي وما هو كوني من حيث المطالب وليس من حيث الأساليب.

فيصبح الجميع مسترزقا بسبب ضرورات المعيشة ولا يتفرغ أحد بحق للبحث في العلوم والفنون وللإبداع فيهما.

فيفسد شرطا كل قدرة وهي النوع الأخير من النخب:

لن يكون الاقتصاد والثقافة أساسي الإنتاج المادي والروحي أو انتاج الثروة والتراث بإنتاج شروطهما أعني علاج العلاقتين الأفقية والعمودية.

صحيح أن للثروة أساس، طبيعي وأن للتراث أساس تاريخي لكن الأساس الطبيعي لا يصبح ثروة من دون علاج العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعية وتلك هي وظيفة العلوم وتطبيقاتها ولا تراث من دون علاج العلاقة الأفقية بين الجماعة وذاتها خلال العلاج الأول شرط التبادل والثاني شرط التواصل.

  • وقد سمى ابن خلدون العلاج الأول العمران البشري، واعتبره للتعاون من أجل سد الحاجات المادية

  • وسمى الثاني الاجتماع الإنساني واعتبره للتواصل من أجل الأنس بالعشير أو الحاجات الروحية.

فقدت فاعليتهما فلم يبق إنتاج اقتصادي للثروة وثقافي للتراث بل مافية للتجارة بالطبيعة والتاريخ والمنتجين.

ما يسمى بالاقتصاد العربي لا يتجاوز:

  • تجارة المواد الأولية (البترول مثلا) لعدم القدرة على تحويلها

  • وتجارة التراث القديم (السياحة مثلا) لعدم إنتاج تراث حديث يعتد به.

صحيح أن بعض العرب وجد تجارة أحقر من هذين وهي تجارة الجنس والتحديث السافل يجعل رزقهم مستمدا من المواخير العالمية.

وواضح أن استمداد الرزق من المواخير غير ممكن من أحد حالتين:

  • ففي الغرب هو جزء ضئيل في الانتاجين المادي والروحي أي من الاقتصاد بشروطه العلمية والتقنية

  • ومن الثقافة بنفس الشروط لأن الثقافة جزء من الاقتصاد والاقتصاد جزء من الثقافة من حيث هما ثمرة الإبداع العلمي والتقني.

أما في حالة انعدام علاج العلاقتين:

  • العمودية بين الجماعة والطبيعة

  • والافقية بين الجماعة والتاريخ بالعلوم وتطبيقاتها التي هي أساس الثروة والتراث

فأساس الارتزاق بالجنس والمواخير هو إما البترول أو السياحة وما يتبعهما من تجارة بفضلات إنتاج الشعوب الأخرى: وتلك هي حال العرب اليوم.

وبذلك تكون نخبة القدرة هي مافيات الجماعة التي استبدت بالثروة الوطنية وبالتراث الوطني وهي التي أقعدت أساس كل ثروة أعني نخبة العلم ونخبة الفن اللتين صارتا مجرد جيش من العاطلين لأنهم لا ينتجون شرط كل إنتاج، أي الإنسان والعلوم وتطبيقاتها والفنون وتطبيقاتها: إيديولوجيا وملاهي سافلتين.

فبعد قرنين من محاولات النهوض – قرن تحت الاستعمار المباشر وقرن تحت الاستعمار غير المباشر الذي تبين أنه أشد وأمر من الاول- لم نسمع ببلد عربي واحد يستحق العالم لغير مواده الخام ولمناخه ولتراث الحضارات التي مضت ولم يكن له فيها دور كبير يذكر. والعلة انتحال صفة النخبة العلمية والفنية.

وهذا الانتحال هو الوحيد الذي يلغي وجود من يعتبر عالما بحق وفنانا بحق، لأن من ليس طالبا للقدرة الفعلية في سد الحاجتين المادية والروحية هو الذي ينتخب المنتحلين مثله حتى يسيطر على الثروة الطبيعية والتراث التاريخي بضاعتين بخستين والتجارة التابعة في فضلات ما ينتجه غير شعبه.

وبذلك أكون قد بينت خفايا ما يبدو غير مفهوم في عمل النخب الخمسة:

  1. نخبة الإرادة التي لا إرادة لها

  2. ونخبة الرؤية التي لا رؤية لها

  3. ونخبة العلم التي لا علم لها

  4. ونخبة الفن التي لا فن لها

  5. ونخبة القدرة التي لا قدرة لها

لأنها مافيات نصبها سيد المنتحلين الذين اختارهم ليكونوا في خدمة مشروعه.

وبالكلام على المشروع الذي هم في خدمته والذي هو لصالح من نصبهم، أنتقل إلى القسم الثاني من هذه المحاولة في الفصلين المواليين للجواب عن السؤال التالي:

لماذا صارت هذه النخب المنتحلة سكاكين تقطع كل ما في الإسلام من شروط العزة والكرامة التي تحرر الأمة من هذه الانتحالات الخمسة؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي