لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص
الكلام على أدواء البشرية يَرِدُ دائما بالتعبير عن مواقف صفين كل منهما يعتبر الصف الثاني هو سببها ويحمله المسؤولية ويرُدّ عليه بنفس الأسلوب علاجا بالتي هي الداء.
وإذن فلا حل ما ظلت هذه الآلية عاملة.
صادف أمس أن تكلمت في اسطنبول على صنفي السلم قبل ما حدث البارحة في باريس فقلت في محاضرتي حول الدين والسياسة ما اعتبره الوصف الدقيق للحال التي تنتج عن هذا العلاج.
قلت إن القوة قد تفرض السلم الذي يطلق إرادة الغالب ما ظل غالبا بوهم القضاء على المغلوب من منطق تحميل أحد الصفين -الصف الثاني- المسؤولية.
وهم المقابلة بين صف الخير كله وصف الشر كله هو الذي يجعل البشرية في حرب أهلية دائمة لظنها السلم الخارجية سلما وليست هدنة بين غالب ومغلوب.
ما الـمُنطلق الذي يمكن أن يُخرج الإنسانية من الفعل ورد الفعل من نفس الجنس أي من الحرب الدائمة والتداول على الغالبية والمغلوبية فيحقق السلم؟
ذلك ما وصفه ابن خلدون عندما قابل بين الوازع الذاتي (أي النابع من الذات) والوازع الأجنبي الذي يفرض إرادة غالب على مغلوب بالاحتكام إلى العنف.
كلما رد المغلوبون ردا على الغالبين من جنس أفعالهم واصل الأقوى بنفس المنطق زيادة في وتيرة سلطانه ليفرض ظلمه الذي لا يريد الاعتراف به مدعيا أنه على حق.
فتتوالى النكبات على الجميع.
لكن لا أحد من الصفين -والمنتظر أن يكون الأقوى والأظلم هو المبادر- يقدم على النظر في ما يكاد ينتهي إلى جنون الإنسانية بلا حد.
فكلما ازداد عنف الفاعل ازداد عنف راد الفعل.
والأصل أولى بوصف الإرهاب من الفرع.
وكنت أتصور أن العولمة والتداخل بين الشعوب ويسر التهديم بسبب تقدم تكنولوجيا القتل ينبغي أن يفهم الدول أنها صارت هشة وأنه لا بد من منطق آخر.
المنطق الآخر هو ما يحقق سلم الباطن بالوازع الذاتي شرطا في سلم الظاهر بالوازع الأجنبي:
لا احتكار في عصرنا للقدرة على التهديم فعلا ورد فعل.
وهذا يقتضي أمرين:
- الأول أن تقدم التقني يؤدي إلى الهشاشة لان احتكاره بات مستحيلا
- والثاني أن كل اعتماد على القوة لقهر الضعفاء خطأ خطير على الجاني قبل الضحية.
فكل مستضعف إذا بلغ درجة اليأس يصبح هداما بدرجة متناسبة مع التقدم التقني الذي ينفي ذاته لأنه مشروط بالجماعات المتمدنة المشروطة هي بدورها بالسلم للجميع :
أما أن تريد السلم لديك والحرب عندي فهذا مناف لكل توازن فيحول دون الاستقرار.
والسلم الخارجية مستحيلة من دون سلم باطنية تحول دون اللجوء إلى العنف الذي يفسد حالة السلم بأبسط الوسائل التقنية التي في متناول المظلوم.
فيكون المشكل هو التنافي بين التقدم التقني في العلاقات المادية والتخلف الروحي في العلاقات الخلقية:
ومعنى ذلك أن الحضارة بنفسها تطلب التوازن بين نوعي العلاقات.
التقدم التقني الذي يحقق علاقات مادية محترمة لا يمكن أن يصمد ما لم يوازه تحقيق علاقات خلقية محترمة كذلك.
وقد بدأ هذا التوازن يحصل في مجال علاقات العمل.
عشنا ثلاثة قرون من الحرب الأهلية البشرية للوصول إلى علاقات عمل متوازنة فقل الصراع بالوصول إلى حل وسط بين الراسمالية والاشتراكية.
وما كان يمكن للرأسمالية أن تقضي على الاشتراكية بالقوة المادية والسلاح لأن الحرب لو حصلت لكان المآل نهاية البشرية بسبب السلاح النووي.
ونفس التهديد ممكن لو توالت الحرب بين المسلمين والقوى الغربية المعتدية:
فليس يمكن الحسم العسكري مهما اختل توازن القوى.
فكان الحل مضاعفا في حالة الحرب الطبقية بين العمال وأرباب العمل:
التعايش السلمي احتاج إلى شرطين
- فهم العلاقة بين الاجتماعي والاقتصادي
- وفهم أن الحرب مدمرة للصفين.
تجاوزت الإنسانية الصدام الطبقي بحلول توفيقية.
الظلم اليوم لم يعد طبقيا في الغرب الذي وصل إلى حل يوفق بين مطلب الاشتراكية (الاجتماعي) ومطلب الرأسمالية (الاقتصادي).
لكنه أصبح استئصاليا لمن يخالفه حضاريا وقيميا.
لم يعد الأقوياء يتبادلون الاستضعاف في ما بينهم بل يجمعون على استضعاف من يختلف عنهم حضاريا وقيميا لظنهم أن حضارتهم هي الممثل الوحيد للإنسانية ولرؤية الوجود الأمثل.
الاعتراف بحقوق العمال مكن الغرب من تجاوز ازمته الداخلية.
لكنه يجرب في الأزمة الحضارية ما جربه في الأزمة الاجتماعية طيلة ثلاثة قرون قبل أن يكتشف الحل.
بعد حرب دامت ثلاثة قرون من الصراع الطبقي المسلح اكتشف الغرب استحالة الحل العسكري وتبين له أن هذه الحقوق الاجتماعية مفيدة اقتصاديا وليست ضارة.
والآن يعيد نفس المأساة فيريد أن يخلق صراعا ثقافيا وحضاريا ويظن حسمه بالسلاح ممكنا لكأنه مقدم على حرب أخرى لثلاثة قرون ليقتنع بالحل السليم المتمثل في ان التعدد الحضاري شرط كل توسيع لآفاق الإنسانية.
صحيح أن الطبقة المالكة لرأس المال أقوى من الطبقة العمالية وصحيح أن البشرية كادت تفنى بجبروت القوة المادية للراسمالية.
فكانت الحكمة التي قربت الاجتماعي والاقتصادي.
لكن من الوهم تصور المسلمين في موقف ضعف.
لن تنجح الحرب الثقافية ضد المستضعفين بل إن صمودها سيكون من جنس صمود الطبقة العمالية وأكثر لان الطبقي والثقافي حاضران فيه.
ومقاومتها من نفس الجنس
فهل نذهب إلى نفس الموقف؟
يخطئ من يتصور أن المستضعفين سيستسلمون لما يزيد الغرب في جبروته ويهدد ويتوعد.
فما نتج عن الصدام الطبقي قد يحصل مثله وأكثر من الصدام الحضاري المضاعف.
إنه مضاعف لأنه صدام حضاري وطبقي في آن.
ولكن ليس هو بين أفراد في نفس الجماعة الحضارية بل بين الحضارات:
بعضها يستثني بعضها من الإنسانية ليس بالأقوال بل بالأفعال.
وهي تستثنيها من الإنسانية حضاريا بحرمانها بالعنف من شروط تحقيق الإنسانية الحرة بفرض الاستبداد والفساد عليها لتبقـيها خاضعة إلى الاستضعاف والاستتباع.
إنها إذن حرب طبقية وعرقية حضاريا ودينيا واقتصاديا واجتماعيا.
وبكلمة واحدة:
هي سياسة منهجية لمنع حضارة معينة من أن يكون لها شروط السيادة المادية (بفرض جغرافيا استعمارية تولد التبعية المادية) والسيادة الروحية (بفرض تاريخ استعماري يولد التبعية الروحية)..
وخطة الحرمان من شروط السيادة تتحقق بحربين:
- أولا – مادية: الاحتلال وتأييد الاستبداد والفساد
- ثانيا – نفسية: التشويه النسقي لحضارة المستهدفين وحتى بمحاولة تحريفها من خلال العملاء الذين يريدون تمسيحها أو تشييعها أو تصويفها.
وكل مقاومة سلمية يسخرون منها ومن أصحابها -يعاملونها كما يعاملون فتح في الضفة- وكل مقاومة شرعية بالدفاع عن النفس يخترقونها بما يشوهها.
وإذا لم يستطعيوا اختراقها يحاصرونها كالنصف الثاني من المقاومة الفلسطينية أي حماس.
بذلك يدفعون البعض دفعا إلى ما حصل في الحرب الطبقية.
فكلنا يعلم ما حصل في الحرب بين القطبين طيلة قرن إلا ربع وبين الحركات المقاومة التي شوهت واتهمت بالإرهاب ولا ننكر أنها قد استعملت أحيانا ما يقبل الوصف بالأرهاب منهجيا رغم الدوافع الشرعية.
لكن المشكل هو ما انطلقنا منه:
بدلا من تحميل المسؤولية لمرض الإنسانية (الصراع الطبقي والصراع بين الحضارات والطبقي في آن) تأتي الأثرة ويغيب الإيثار فيتعامل البشر كالحيوانات الجوعى على ثروات الأرض.
لا سلم إلا يوم يقتنع البشر بأنهم اخوة وأن تحقيق السلم لا يكون بالقوة المادية وبالوازع الخارجي بل بالقوة الروحية وبالوازع الباطني كما قال ابن خلدون في كلامه على الظلم الذي يخرب العمران.
أما إذا لم تفهم الإنسانية ذلك وظلت منقسمة إلى من لهم حقوق الإنسان كاملة ومن ليس لهم حتى حقوق الجماد فإن أي فرد بفضل التقدم التقني والعلمي يمكن أن يوقف دولا فيعكر حياتها إذا شعر بأنه لم يعد له ما يخاف عليه بعد كرامته.
فالمدنية تعني الحياة المطمئنة إذا استندت إلى سلم باطنة يتساوى فيها الجميع.
وهي لا تكون كذلك إلا بالدعة خارجيا وبالسلم باطنيا.
وهذان من أيسر الأمور إزعاجا وتخريبا في عصرنا.
فكيف تريد أن تعيش في بلدك مطمئنا وتجعلني في بلادي أعيش تحت البراميل والصواريخ والكيمياوي من قبل من تسند ليحقق مصالحك؟
والعلم بهذه الهشاشة من المفروض أن يدفع البشر إلى جعلها مصدرا للتسالم بينهم ولعدم عدوان بعضهم على بعض خاصة إذا تحول إلى سياسة تلغي الضعيف والمظلوم.
من يلوم من اُعتدي على عرضه وماله ودينه وعقله ونفسه أن يشعر بأنه لم يبق له ما يخاف عليه فيصبح طلب الموت خلاصا وثأرا في آن؟
من يمكن أن يعتبر منصفا وعادلا إذا اعتبر فاقد هذه الضروارت الخمس معتديا إذ يثور ليدافع عن مقومات ذاته بنفس طريقة من أفقده إياها أي العنف رغم عدم التناسب بين العنفين والتجهيزين القتاليين؟
هل من اعتدى على عرضك ومالك ودينك وعقلك ونفسك ليس عنيفا وإرهابيا لا لشيء إلا لأنه يعتبر نفسه ممثلا للإنسانية التي يستثنيك منها؟
هل هذا معقول؟
ستجد بعض الأغبياء مسارعين لاتهام هذا السؤال مؤولين القصد منه بأنه تبرير للإرهاب وهم غالبا الساكتون عن الإرهاب الحقيقي ولا يرون أن الداء هو آلية الفعل ورد الفعل الجهنمية.
هل معنى ذلك أن من يحتل منزلـي ويعتدي على زوجتي وأبنائي ويفتك مالي ويهين معتقداتي ولا يحترم عقلي ويلغي نفسي إذا قاومته أُسمى إرهابيا ويُسمى هو إنسانا متحضرا عادلا وخلقيا؟
أمّا كون الإرهاب اعمى فهو طبعا كذلك.
لكنه كذلك في الحالتين في الفعل ورد الفعل.
ولن أقول البادئ أظلم بل أقول:
فلنوقف هذه الآلة الجهنمية التي قد تضعف الجميع فتقضي عليهم لوجود المنافسين المتربصين.
إذا كنا قد أوقفناها في المسألة العمالية وفي العلاقة بين الاشتراكية والرأسمالية بعد اليأس من الحل العسكري فلم لا يجنح الصفان إلى السلم في المسألة الحضارية؟
كل من يتوهم أن المسلمين سيرضخون لـ”لديكتات” بسبب الضعف مخطئون.
وكل من يتصور أن المسلمين لا يريدون التعايش السلمي فيتهم نواياهم ليبرر إجرامه مخطئون
وكل من يريد للعقلاء من الصفين أن يقوموا بالواجب من أجل هذه الغاية ينبغي أن يقتنع بألاّ حل عسكري بين البشر.
فالسلم الخارجية ليست إلا هدنة وهي تبيّت العدوان في كل لحظة.
السلم الحقيقية اعتراف متبادل بين الذاتين المتلاقيتين رغم الاختلاف وبتحديد الحقوق والواجبات بينهما بتعاقد ندي.
فالتعاون شرطه تعاوض عادل.
ثم إن الحضارتين مشتركتان في التراثين الديني والفلسفي رغم التاريخ الدامي بينهما.
فالعرب لن يشربوا البترول ولا فائدة لهم من تعطيل ممراتهم وبحارهم وثرواتهم إذا تم التبادل العادل.
لكن الاستكبار والأخذ عنوة من الطبيعي بشريا أن يكون دونهما حياتنا.
ولسنا الهنود الحمر فتؤخذ أرضنا ونُـفنى.
لذلك فالحل هو التعاون لا آلية الفعل ورد الفعل العنيفين الآلية الجهنمية التي قد تقضي على الصفين في ظل صعود صفوف أقوى.
والدفاع الشرعي عن الضرورات الخمس (العرض والمال والدين والعقل والنفس) هو الجهاد وهو خاضع لقواعد خلقية هي قانون الحرب الدفاعية قرآنيا.
ولا ينبغي خلطه بالإرهاب الذي هو العدوان بدوافع سياسية عدوانية وليس دفاعية.
أما أن يشوه ذلك بالحرب النفسية وبالاختراق المخابراتي وبالبشاعات المقصودة فتلك عملية تمت مع كل المقاومات التحريرية وحتى مقاومات العمال في الحرب الطبقية.
ولا يعني ذلك أننا ننفي أن المقاومين يقومون أحيانا بأعمال منافية للهدف إما تهورا أرعن وبحماسة ساذجة أو بهدف التشويه المخابراتي من قبل مخترقي حركات المقاومة.
وعلى كل فرأيي أن هذه المهارب لن تجدي نفعا: لا بد من التحرر من سلسلة الفعل ورد الفعل الإرهابيين لتحقيق السلم.
أملي أن يقتنع حكماء الغرب فيدركوا أن المافيات غربا وشرقا في آن هي العلة العميقة وذلك بـالتحالف بين الاستبداد والاستعمار.
ورأيي كذلك أن النصر المحتوم هو لِحَقِّ المظلوم مهما طالت المعركة:
فطبيعة مقاومة الضعفاء ماديا للاقوياء ماديا هي الاعتماد على القوة الروحية.
الضعف المادي تعوضه القوة الروحية التي هي بالأساس الصبر والمطاولة في الدفاع الشرعي عن الحق مهما كانت الكلفة لأن الأمر يتعلق بالكرامة.
كل من يتوهم أن مثل هذه السياسة ستبقي الحال على الصورة التي يريدها الاستعمار (الاستضعاف والاستتباع) وعملاؤه (الاستبداد والفساد)
- يتجاهل أن الأمة -مهما وقع من أخطاء شبابية في حركة المقاومة- لا يمكن أن تخضع للقوة
- وهو يجهل تاريخها وقدرتها على الانبعاث من جديد: فهي طائر الفنينق.
والتاريخ يمكن أن يتجه الوجهة الصحيحة بتحرر الغرب من فكرة الاستفادة من دار الإسلام لمقاومة العماليق الصاعدة بما فيها لكأنها “رزق مات أصحابه”وبجنحه إلى التعامل الندي مع أمة أعدت العدة للاستئناف التاريخي الكوني الذي لن يتوقف مهما تجبر الغرب وتكبر.
يرجى تثبيت الخطوط
أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/