لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
عقيل الخطيب
بعد توجهنا بالشكر الجزيل للهيئة العلمية لشبكة ريفورس على حسن اختيارها للندوة موضوعا وحضورا وخاصة لجهة لفت نظرنا الى انه يوجد في تونس هنا والان من هو جدير بالاهتمام نشاطا وعملا وترجمة وابداعا فلسفيا وقبل ذلك وبعده علاقة وصلة نسجتها اخلاق معرفة وتاريخ وجغرافيا ذات سنوات تدرب على يدي فيلسوفنا.
الشكر ايضا موصول لكافة الحاضرين وكلي امل في فك بعض من كثير مغاليق المدرسة اليعربية هي مغاليق كل فكر يسعى للتعامل الجدي مع عويص الاشكاليات الفلسفية بعيدا عن السطحيات والعفوي والانطباعي.
ان الخائض لبحر فكر ابي يعرب هو كمن يغامر بمواجهة امواج متلاطمة تزيدها قوة بعض من رياح وعواصف تأتي من كل حدب… ولكن قليل من الاصرار وشيء من الجدية وبعض من الصبر كفيل بأن يجعل سفينتنا ترسو في الشاطئ.
اضع بين ابصاركم واسماعكم قولتين هامتين من مجالين حضاريين مختلفين هما الحضارة الاغريقية والحضارة الاسلامية وكلتاهما تصنعان اليوم الفاعلية المعرفية والوجودية بماضيهما الحي.
القول الاول للمعلم الاول ارسطو اما القول الثاني فللمعلم الأخير في حضارتنا العربية ابن خلدون
يقول ارسطو في آخر كتاب الاغاليط وهو يفتخر بانه صاحب الفضل والسبق في اكتشاف وتأسيس علم المنطق وما على اللاحقين الا اتمام النواقص ان وجدت…
(من وقف على تقصير منا فيما وضعناه فليعذرنا فإنا لم نجد في هذه القوانين لمن تقدمنا شيئا نستعين به وما كان منها ليس فيه تقصير فليحمدنا عليه اذ كنا اول من تكلم في ذلك)
يقول ابن خلدون في كتاب المقدمة وهو يفتخر بانه صاحب الفضل والسبق في اكتشاف وتأسيس علم التاريخ وما على اللاحقين الا اتمام النواقص ان وجدت:
فنون اربعة اثنين على مستوى النظر والعقد وهما الكلام والفلسفة واثنين على مستوى العمل والشرع وهما الفقه والتصوف هذه الفنون الاربعة تلتقي في الوجه الرمزي من الوجود اي الانطولوجيا كما فهمتها او كما حاول مبدعو هذه الفنون ان يبلوروها من خلال تأويلاتهم. وتفاسيرهم للقرآن الكريم فكان الفن الخامس ملتقى تقازيح والوان الخطاب المعرفي والفكري العربي الاسلامي أي علم التفسير.
مرحلة المقولات من حيث هي تحديد ميتافزيقي لصفات الموضوع استنادا الى التجربة الحسية الظاهرة هنا اشارة واضحة لأرسطو.
مرحلة محاولات نقدها لتجاوزها: السعي الى اختصارها وصولا الى ما يقرب من طابعها الواصف لأفعال الذات المتعالية او لخصائص اللغة الفلسفية (مرحلة ما قبل كانط).
مرحلة المقولات من حيث هي تحديد ميتافزيقي لأفعال الذات ممثلة بالحكم استنادا الى التجربة الحسية الباطنية هنا الاشارة الى كانط.
الى هذه اللحظة نحن ازاء مقاربتين: مع ارسطو مقاربة تجعل ما في الاعيان منطلقا لتحديد ما في الاذهان وكانط مقاربته معاكسة فالعلم الصادق عنده هو مطابقة ما في الاذهان لما في الاعيان.
محاولات نقدها لتجاوزها وهي محاولات بدأت بإدخال الصيرورة عليها وصولا الى ما يقرب من طابعها الواصف لأفعال الذات الجمعية التاريخية او لخصائص الرمز عامة.
المرحلة الأخيرة تكتشف سذاجة الحلين المقولين السابقين والنقدين المصاحب لهما من خلال فهم عدم كفاية أي محاولة تسعى الى ردّ الوجود الى الإدراك (نظرية الحقيقة/المطابقة) ومن ثم تنسيب المعرفة العقلية التي لم تعد علم الاشياء على ما هي عليه بل علمها على ما يناسب العقل الانساني المدرك لحدوده ومن ثمّ المؤمن بالغيب ممثلا لطور ما وراء العقل: هذا هو بحسب دكتورنا التعالي على كل ميتافزيقا التعالي الذي يحرر الانسانية من وهم حصر الوجود في الادراك ونفي عالم ماوراء عالم الشاهد…وبالتالي التخلي عن المقولات بصنفيها وصولا لمنطق آخر سوي. يحدد رؤية الحقيقة والوجود بعيدا الوثوقية الميتافزيقية.
يسجل دكتورنا هنا انه من المهم ان ننتبه الى ان الانسان من خلال مغامرته المعرفية على مدى قرون وتوقه نحو الادراك بنوعيه غافله ومترويه قد تلون بألوان هي وليدة السياق الثقافي باعتباره مناخا يوجه العقل/الفاعلية بما يفرضه عليه من ترتيب لهمومه واولياته وهي هموم تدور مع القيم الخمسة (لا الثلاثة كما يزعم التراث الفلسفي الكلاسيكي).
ان هذا الموقف اليعربي من تأسيس العلوم وترتيبها منطلقها اطروحة مفادها ان هذا التأسيس لا يقتصر على شروط معرفية منطقية وابستيمولوجية وهي هامة ولكن ثمة معها الشروط الثقافية أي توظيفات المعرفة وعلم اجتماعها هذه الشروط هي التي تهيئ الجماعة العلمية للانتقال من الجدل حول بناء العلم ووظائفه الى بناء العلم نفسه باعتباره عبادة.
هذا العلم العبادة ضمن السياق اليعربي هو لب الفهم التيمي/الخلدوني وهو فهم يسعى لتحقيق هدفين:
تيسير استعمار الانسان للأرض وهذا ممكن في حالة واحدة والا أصبح استدمارا على نحو توحشنا الراهن.
تحقيق العيش بقيم الاستخلاف هذه القيم التي الكون كله بحاجة اليها بعد رعب الليبرالية المتوحشة لا ضد الانسان وانما ضد الحياة.
يدعونا ابو يعرب الى اعادة قراءة المنجزات الحضارية الانسانية والتخلي عن القراءات الأحادية والمنحرفة (يلاحظ بذكاء العبقرية انما قام به القرآن هو نقد التجربة الدينية الانسانية قصد تخليص الانسانية من الاديان المنحرفة انطلاقا من قاعدة التصديق مع الهيمنة وليسمح لي استاذنا ودكتورنا للقول بانه يسعى نفس السعي القرآني مستلهما قاعدته مطبقا لها على التجربة الفلسفية الانسانية جاعلا من ابن تيمية في العقل النظري وابن خلدون في العقل العملي غربال الهيمنة والتصديق).
حتى نفهم/نعي التجربة المعرفية الانسانية حق الوعي ونعرف خيطها الناظم اكان خيطا متعاليا او محايثا لاهوتيا او ناسوتيا يقترح ابو يعرب دراسة متأنية تتجاوز السطحيات من الكتب المدرسية الى العمق من اشكاليات الوجود/ المعرفة في حضارتين ويعتقد انهما من الماضي الحي أي الفاعل في الوجود الحضاري الراهن.
الحضارة الاغريقية وهي حضارة امتدت مما قبل سقراط وصولا الى نضجها افلاطون/ارسطو حيث المنجز فيها تأسيس العلم الطبيعي (نظرية العلم) وما بعده(الميتافيزيقا) او نظرية الوجود.
الحضارة العربية الاسلامية وهي حضارة امتدت من نهاية القرن السابع الى نهاية القرن15م من ما قبل الكندي وصولا الى نضجها ابن تيمية/ابن خلدون حيث المنجز فيها تأسيس علم التاريخ وما بعده (علم العمران البشري والاجتماع الانساني) لكن هذا المنجز الحضاري الخطير بقي دون اتمام لان ما اتى بعده هو دخول الامة في عصر الانحطاط.
ان معنى هذه القراءة اليعربية يمكن ان نوجزها في ما يلي دون ان ننسى القولين المنسوبين لعلمين حيث كل واحد يتباهى بمنجزه باعتباره منجزا حضاريا يسم الامة الثقافية المنتمي اليها كل طرف وكنا قد صدرنا هذه المداخلة بهما دون تعليق لكن يتضح الفهم اليعربي لهما على النحو التالي:
ان الفيلسوف المؤسس او الرمز في هاتين التجربتين التأسيسيتين مضاعفا في حالتي اليونان كما في العرب فنسبة افلاطون/ارسطو في تأسيس العلوم الطبيعية تأسيسا فلسفيا متينا هي ذات النسبة ابن تيمية/ابن خلدون اللذين شرعا في تأسيس العلوم الانسانية التأسيس الفلسفي المتين…وإذا كان التأسيس الاول له فضل البداية المطلقة لان ما تقدم عليه كان محاولات مشتتة فإن التأسيس الثاني له فضل الغاية رغم ان الامة دخلت في الموت الحضاري المؤقت مما جعل اللاتين ومن بعدهم الالمان يحوزون السبق في اتمام المشروع التيمي/الخلدوني.
مكنا من التخلص مما يحول دون تأسيس العلوم الانسانية أي الظن ان المنهج الوحيد المعرفي هو المنهج التحليلي المنطقي والرياضي وليس يحتمل وجود منهج آخر مواز له أي المنهج التأويلي التاريخي اللساني.
أحدهما وهو ابن خلدون لم يكتف بتصور جديد لنظرية العلم وما بعد العلم بل باشر الانجاز والتأسيس وبوعي وعبقرية تنطق نصا صريحا يقول في المقدمة ص664 [وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفئ له ولعل من يأتي بعدنا يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا…فليس على مستنبط الفن احصاء مسائله وانما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا الى ان يكتمل].
التحقيب اليعربي للزمن الفلسفي الحضاري:
ان طرافة القراءة اليعربية للمنجز الانساني المعرفي كنشاط وفاعلية تحكمه برأيي مسلمتين:
المسلمة الاولى: وحدة الفكرين الديني والفلسفي اكان الدين طبيعيا او منزلا والفلسفة اكانت لاهوتية او ناسوتية فقط هيمن على الدين الجانب العملي في حين هيمن على الفلاسفة الجانب النظري…وقد بلور الدكتور هذه المسلمة في كتابه وحدة الفكرين الفلسفي والديني محاولا البرهنة على هذه الوحدة.
في الحقيقة هو ليس بدعا في هذه الاطروحة اذ نجد نظيرا له في كل الثقافات وان اختلفت التوجهات والدوافع مثلا عندنا الفارابي وابن رشد وهناك لدى الالمان هيجل وان اجمعو ا على ان هذه الوحدة مضمونية دون الشكل بينما يؤكد فيلسوفنا انها وحدة حتى في الشكل فكما انه يوجد في النقل عقل كذلك عقل النقل بمعنى آخر يتحول النقلي الى عقلي في مساره التاريخي كذلك ثمة تاريخ للفلسفة يتحول فيها العقلي الى نقلي هذا فضلا على انهما تجربتان روحيتان فيهما اشرئباب نحو المطلق.
المسلمة الثانية بنية العقل البشري واحدة.. وهذه المسلمة هي منتج لآخر الدراسات الانثربولوجية المعاصرة والتي تقطع مع المركزية والعنصرية هي تنحو نحو وحدة البشرية في أصلها ومصيرها وخاصة في آلية التفكير لديها أعنى العقل هي اطروحة ينسبها ابو يعرب الى الاديان التي لم تلوثها اياد العابثين بالتحريف والخرافة.
هذه الاطروحة تؤكد ان العقل الانساني هو بنية واحدة وان خاض تجارب مختلفة وهذا يعني انه في رحلته هناك ثوابت وهناك متغيرات ويكتشف لنا ابو يعرب هذا الثابت الذي تنتهي اليه كل تجربة فلسفية مبدعة انه المسار الخماسي في مراحله والذي ينتهي حتما بالوصول الى تجربة الافلاطونية المحدثة هده التجربة تجدها في مختلف الحضارات المتلاحقة والمتصارعة المعلومة لدينا اعني اليونان فالعرب ثم اللاتين واخيرا الالمان وما على الدارسين الا امتحان هده الاطروحة بعد ان تكفل الدكتور بالبرهنة عليها في الفضاءين الاغريقي والعربي….ويطمح دكتورنا الى اكثر من ذلك بالبحث عن نظائرها في حضارات الشرق الاقصى طالما ان العقل واحد في بنيته.
لنبدأ بعرض خلاصة هذا التحقيب الخماسي:
المرحلة الاغريقية: كما هو واضح عرفت التجربة اليونانية في مسارها المعرفي خمس مراحل هي:
ما قبل المرحلة اليونانية
ما قبل سقراط هنا الجدل السقراطي مع السفسطائيين
افلاطون وارسطو
ما بعدهما من خلال نشاط تلامذتهما
تبلور المرحلة الافلاطونية المحدثة الهلنستية
المرحلة العربية: هي بدورها ذات خمس مراحل وبقدرات عالية ينجح ابو يعرب في خلق التماثل مع التجربة السابقة:
ما قبل المرحلة: تعلم عن اليونان حيث اكتسحت المنطقة العربية المدارس العلمية كأنطاكيا والاسكندرية…ظهور المشرق في مقابل المغرب على النحو السينوي لا الجابري.
مرحلة بناء فكر قادر على التواصل والتفاهم مع التجربة اليونانية ويمثلها خاصة الكندي رغم انه لم يكن مترجما
الفارابي وابن سينا: مرحلة الاستيعاب الاولي للفكر اليوناني كما تعين في الافلاطونية المحدثة ومحاولة التجاوز بفضل التأثير القرآني.
مرحلة الاستيعاب النقدي يمثلها الغزالي حيث جمع بين الفلسفة/الكلام والفقه/التصوف جمعا ناتجا عن الصدام بين العلمين النظري والعملي.
الافلاطونية المحدثة العربية وقد بلغت نضجها في محاولات الترميم ويمثلها الرابوع: ابن رشد*السهروردي*الرازي*ابن عربي
ان ما يؤكد عليه الدكتور ابو يعرب هو ان تجاوز هذه الافلاطونية المحدثة بوضع الحلول والتبشير بأفاق هذه الحلول هي المنجز الثوري الذي ينسبه الى بن تيمية/بن خلدون وسنرى لاحقا هذا.
المرحلة اللاتينية: كذلك لها نفس التمشي ويقترح الدكتور على شباب الدارسين هذه المراحل لإثباتها:
ما قبل المرحلة اللاتينية أي مرحلة التعلم على يد العرب (ايطاليا/الاندلس) ابان كانت العربية لغة العلم والثقافة.
مرحلة الترجمة والشروع في التصدي منعا للتأثير الاسلامي
ما يناظر عندنا الفارابي/بن سينا: تكون الجامعات الاوروبية في منتصف القرن 13م وهنا برز توماس الاكويني/القديس اللطيف
حركة الاصلاح الديني وبداية الجدل اللاهوتي والفلسفي
الافلاطونية المحدثة اللاتينية وهي ميسم العصر الكلاسيكي
المرحلة الالمانية: يسجل ابو يعرب هنا ان نهضة المانيا كانت صعبة الولادة فما هو ثابت تاريخيا انها كانت في بداية نهضتها تعيش اوضاعا جد متخلفة مقارنة بفرنسا وإنجلترا (بل يمكن مقارنة وضعها بوضع الامة العربية ابان النهضة الثانية في القرن 19م وهي نهضة للأسف اخطأت مرماها عكس النخب الالمانية التي عرفت طريقها وسلكته بإصرار) هذه التجربة بدورها عرفت خمس مراحل:
مرحلة التعلم بعد نجاح حركة الاصلاح الديني وتحول الالمانية الى لغة علم ونشاءة الجامعات خاصة جامعة غوتنغن وهالة.
محاولة بناء فكر فلسفي قادر على مواجهة الحركية الفلسفية في فرنسا وانقلترا ويمثلها لايبنتز أي ما يوازي الكندي عندنا.
الاستيعاب الكامل للفلسفة الافلاطونية المحدثة اللاتينية ومحاولة التجاوز بتأثير البروتستانية ويمثلها كل من ليسنغ*ابن مندل*هاردر أي ما يقابل الفارابي/بن سينا عندنا
ان واقع الفلسفة الالمانية اليوم هو محاولة التجاوز او الخروج والتحرر من قبضة هذا الرابوع وخاصة هيغل (يوجد نص صريح لفوكو في هذا الإطار يجعل من مطلوب فلاسفة العصر التحرر من قبضة هيغل).
لا يفوت ابو يعرب هنا ان يسجل بإفتخار مشوب بنوع من التعجب وهو يكتشف هذه المسارات للعقل البشري خاصة في التجربة العربية والالمانية :يوجد تماثل عجيب بين المنجزين العربي والاسلامي واكتشف هذا التماثل وهو بصدد ترجمته لكتاب المثالية الالمانية لهانس يورغ زاندكولر هذا التماثل العجيب لا يتعلق فقط بأمهات القضايا والاشكاليات وانما ايضا بمعالم الحلول وبعض الحدوسات مع تنبيهه الى ان اسبقية المنجز العربي الاسلامي ليس اسبقية تاريخية وزمانية فقط وانما ايضا معرفية فلا وجود لدى الالمان ما يناظر بن تيمية/بن خلدون وهذا ما يجعل منهما حسب دكتورنا فيلسوفيين ثوريين بحق.
لقد افرد الدكتور قسما خاصا للموازنة بين الفلسفة العربية والالمانية وفي هذه الموازنة التي سنعتمد عليها لبيان القيمة الفلسفية لكل من بن تيمية/بن خلدون.
يثبت هذا التحقيب ان الهم الانساني واحد أي كانت الحضارة واي كان الزمان واي كان المكان انها إشكالية:
النظر/العقد في مقابل العمل/الشرع وذلك ضمن انطولوجيا الوجود/التاريخ.
ويعتبر الدكتور ابو يعرب ان المثالية الالمانية ممثلة في رابوعها هي نكوص بالقياس الى نقد الميتافزيقا مع كانط…وهي ذات الملاحظة في حضارتنا فالترميم الرابوعي عندنا هو نكوص مقارنة بنقد الغزالي للميتافزيقا. رغم ان الغزالي نفسه لم يتحمل نقده فانقلب ضده (ذات الملاحظة تخص كانط حيث انقلب في نقد العقل العملي ضد ما عمله في النقد النظري) فالإشكالية في عمقها هي العلاقة بين الظاهر(الفقه) والباطن (التصوف) على المستوى العملي ونظريا العلاقة بين الكلام والفلسفة.
ما يعتبره فيلسوفنا منجزا ثوريا وينسبه لكل من بن تيمية وبن خلدون هو تأسيسهما المبدئي لمنهج القراءة التاريخية وبالتالي نفهم دور الفكر الاسلامي عامة ودور بن تيمية/بن خلدون خاصة ….فالفكر العربي الاسلامي ليس مجرد ناقل او وسيط بين القديم/الحديث على اهمية دور الوساطة بل اهم من ذلك القدرة على التشخيص والعلاج ويكفي دلالة على ذلك ان الفصل السينوي بين الماهية والوجود هو بؤرة التفكير الفلسفي المعاصر سواء مع الوجوديين بمختلف مدارسهم او مع خصومهم هذا غيض من فيض لمن اراد تجاوز دقيق الحديث الفلسفي الى جليله وهي عاهة ( أي ادعياء الحداثة عندنا المشرئبة اعناقهم تلقاء الغرب وانتاجاته دون فهم واستيعاب لماضيهم وحاضرهم) آن اوان الفكر العربي ان يستأنف مسيرته بوعي وثقة ويتمم المشروع الضخم التيمي/الخلدوني ويعتقد فيلسوفنا ان ما يقوم به هو خطوة في هذا الاتجاه علما وان هذا المشروع لا يمكن ان يؤتي ثماره الا عبر نسق العصر اعني من خلال مؤسسات.
لن نستطيع فهم هذا المنجز الثوري حسب الدكتور ابو يعرب دون الاجابة على الاسئلة التالية واذكرها حرفيا من كتابه الموازنة (أعنى المجلد الثالث: دور الفلسفة النقدية العربية ومنجزاتها):
الاسئلة ذات التعلق ببن تيمية: ما المميز الاساسي لفكر بن تيمية؟ ما هو الوجه السلبي بما هو نقد للمنطق وما بعده لتأسيس علاقة جديدة بين الفلسفة والدين؟ هنا المهمة التيمية هي اصلاح النظر من اجل اصلاح العمل…
ماهو الوجه الايجابي وهو قليل عنده (غير مباشر) وأهمل في فكرنا المعاصر أي لدى نخبنا رغم فاعليته واهميته من جهة ما يحدث اليوم في منطقتنا من احداث يصل الحمق والصلف بالبعض لتحميل اوزارها لابن تيمية بصوت معلن وللقرآن بصوت خفي لا يتجرأ بين ظهرانينا ولكنه عندما تحميه مافيا الغرب يتهم القرآن والنبي محمد.
كل مسعى بن تيمية هو اصلاح النظر من اجل العمل والشرع.
الاسئلة ذات التعلق بابن خلدون: ما المميز الاساسي لفكر بن خلدون؟ ما هو الوجه الايجابي من حيث بناءه لعلم العمران البشري والاجتماع الانساني لتأسيس علاقة جديدة بين الفكر الفلسفي والفكر الديني ومن ثم اداتهما النهجيتين واساسهما الوجوديين أي ما هو سوسيولوجي واكسيولوجي بصورة تصلح العمل من اجل اصلاح النظر (تمشي عكس تمشي بن تيمية).
وما هو النقد السلبي (وهو قليل وغير مباشر) وهذا مهمل كذلك في فكرنا المعاصر (أي من طرف ادعياء التفلسف) بالرغم من اهميته وفاعليته في واقعنا وحياتنا الراهنة؟
كل مسعى بن خلدون هو اصلاح العمل من اجل اصلاح النظر والعقد
لكن في تأليفية يعربية لا يقدر عليها الا مثلة ولا يعرف سرها الا هو يجمع بينهما بالرغم من التقابل بين المدخل والمنتج فالإشكالية التي تحركهما واحدة: تحديد العلل للحرب الضروس بين الفلسفة والدين ببعديها:
النظري الإلهيات الفلسفية/الإلهيات الكلامية
العملي فقه الظاهر/فقه الباطن
هذا الاصلاح واضح لدى بن تيمية/بن خلدون فهم ان شرط امكانه هو اصلاح اداة الفلسفة الاساسية المنطق وما بعده واداة الدين الأساسية التاريخ وما بعده
هكذا يتضح سر اهتمام بن تيمية بنقد المنطق واسسه وتركيز بن خلدون على التاريخ وما بعده الاول مدخله لهذا الصلح النظر وصولا الى العمل والثاني مدخله العمل بلوغا فيما بعد للنظر
الوظيفة التي يأخذها فيلسوفنا على عاتقه هي التأليف بينهما وترميم الفجوات واكمال المشروع علما وانهما كانا على وعي حدسي حاد بان ما يقومان به هو البداية وعى اللاحقين اتمام هذا المشروع الضخم.
إذا لدينا مدخلين للمسالة:
المدخل الاول: اشكالية النظر والمنطق فلسفيا والعقيدة دينيا وعلاج العلاقة هو اكتشافه انطولوجيا العلم والمعرفة المنطقية وهما شرط امكان نظرية السيميولوجيا او كما يصطلح فيلسوفنا علم الوسميات.
المدخل الثاني: هو علاج اشكالية العمل والتاريخ فلسفيا والشريعة دينيا وعلاج العلاقة هو اكتشافه انطولوجيا العمل والمعرفة التاريخية وهما شرط امكان علم الظاهرات العمرانية والاجتماعية.
وما يعثر عليه الدكتور الفيلسوف ابو يعرب وهو بصدد ترجمته لكتاب المثالية الالمانية لهانس زاندكولر ويعتبره اكتشافا ان الفلاسفة الالمان لهم نفس الهم والاشكال أي فلسفة الدين/فلسفة التاريخ.
لا تستقيم قراءة ابو يعرب لفرادة المنجز التيمي الخلدوني من مدخليه الا بربط منجزهما بما سبق فالفيلسوف ليس آدم لم يسبقه أحد بل هو نتاج مجهودات سابقيه الفلاسفة لا يولدون كالفطر كما يقال وانما هم حصيلة تجارب ومغامرات امة هنا لابد من وضع المنجز التيمي/الخلدوني ضمن سياقه الحضاري انهما بمعنى ما استمرار للجدل الدائر قبلهما بل ان عملهما ناتج عن تفاعل ايجابي مع الرابوع الترميمي للفلسفة العربية وهذا يفرض علينا الان الانتقال للبحث في التجربتين السابقتين لهما أعنى اليونانية والعربية.
يرى دكتورنا ابو يعرب وهو الضليع والمتخصص والمتمرس بأرسطو /افلاطون خاصة والفكر اليوناني عامة(ان كبار الفلاسفة الالمان كان لديهم هذا الهوس بالفلاسفة الاغريق وخاصة ارسطو/افلاطون وهذا ما يفسر نجاحهم في الابداع الفلسفي لكان طريق الفلسفة يمر عبرهم وهو الخلل الذي يفسر سطحية نخبنا وهذا الذي تفاداه دكتورنا ولذا حق له التفلسف وبجدارة لأنه يفوق الالمان بتحصيله لتجربة اخرى هي العربية وهو خلل في فلاسفة الالمان كثير ما عبر الصادقون منهم عنه…بالنسبة لي شخصيا كنت محظوظا عندما درسنا على يديه الخصومة الارسطية/الافلاطونية وكانت دروسه في مدرجات 9افريل يحضرها الجميع حتى من خارج الاختصاص وصادفت دروسه احداث. العراق/الكويت وما نتج عنها فكانت الفلسفة الاغريقية ممثلة في الخصومة الارسطية الافلاطونية وكأنها خصومة راهنة.. حقا كان الدرس الفلسفي لدى الدكتور متعة لا تعادلها أي متعة اخرى.. وكنت اقول من لم يدرس افلاطون/ارسطو على يد الاستاذ فاته الكثير).
يرى الدكتور ابو يعرب ان اعجاز الحضارة الاغريقية لا يتمثل في بدء الفلسفة كما هو مشاع في كتب التاريخ ذلك ان السؤال الوجودي/الفلسفي هو سؤال الدهشة وهو سؤال لا جنسية له وانما يتمثل اعجازها في التأسيس الابستيمولوجي للنظر والعمل من مدخل علوم الطبيعة وادواتها المنهجية انها دشنت بداية العلوم ذات المنهج التحليلي (المنطق والرياضيات) ”هنا اذكركم بافتخار ارسطو بتأسيسه لعلم المنطق والذي دشنت به هذه المداخلة”.
اما القارة الاخرى كما يسميها ميشال فوكو بالقارة الجديدة أعنى مدونة العلوم الانسانية فهي ضلت خارج هذا التأسيس لذا رفض ارسطو اعتبار التاريخ علما بل ويرى ان منزلته دون منزلة الشعر لكونه يتعلق بالطارئ والجزئي والخاص في حين ان منطقه تحكمه قاعدته الشهيرة لا علم الا بما هو كلي.
في حين ومقابل هذا نجد الفيلسوف بن خلدون يفتخر بكونه مؤسسا لعلم جديد هو علم التاريخ وبالتالي يعتبره المرزوقي المفتتح الفعلي للقارة الجديدة: العلوم الانسانية بل لم يكتف بالدفاع عن مشروعية هذه القارة الجديدة وانما باشر بوعي لا نظير له عملية (تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه) كما يصرح في المقدمة.
يخلص الدكتور ابو يعرب الى ان معجزة الحضارة الاسلامية هي التأسيس الابستيمولوجي للنظر والعمل من مدخل علوم الانسان وادواتها المنهجية التاريخ واللسانيات انها إذا افتتاح عصر معرفي جديد ذو بعد تأويلي متمما بذلك المنجز الاغريقي.
ان اهمية هذين المدخلين الابستيمولوجيين(اليوناني/العربي) لم تتضح وتبرز بكامل البروز الا في عصرنا وذلك من خلال الجدل الابستيمولوجي الدائر اليوم حول المنهجين: التحليلي/التفسيري في مقابل التأويلي/الفهم.
والإنسانية مدينة لهذين الابداعين ولمحاولات التوحيد بينهما اما من المدخل الاول الى الثاني او من المدخل الثاني الى الأول.
ان علاج مسالة العلاقة بين العلم والايمان في مستوى النظر والعقد والعلاقة بين القانون والاخلاق في مستوى العمل والشرع هذا العلاج التوحيدي لن يكون مثمرا الا بأمرين.
تجاوز نظرية مقولات الموضوع (ارسطو) ومقولات الذات (كانط).
الوصل من الاولى الى الثانية (محاولات تجاوز ارسطو) ومن الثانية الى الاولى (محاولات تجاوز كانط) وصولا الى فلسفة الرمز ونظرية الآية والبيان وهي الموضوع الراهن للمنعرج اللساني. وبذلك يفهمنا الدكتور العبقرية التيمية الخلدونية.
لاكن سؤالنا الان كيف أمكن لكليهما تدشين القارة الجديدة: العلوم الانسانية (ما يسميه ابن خلدون علم العمران البشري والاجتماع الانساني وهو مربع الابعاد كما هو بين في المقدمة*الثقافة*التربية*الاقتصاد*السياسة)
حسب فيلسوفنا ابو يعرب ما كان هذا الانجاز ليحصل ويرى النور لو لم يكن الغزالي حاضرا نعم الغزالي رغم نكوصه فإليه يرجع كل الفضل. كيف ذلك؟؟
ان الابستيمولوجيا اليونانية قائمة على مفهوم السببية بما هي مبدا عقلي/وجودي فالظاهرات الطبيعية يمكن معرفتها والعلم بها (مفهوم العلم لدي ارسطو معرفة السبب) كونها خاضعة لمبدأ الضرورة وبالتالي العلاقات بين الظواهر الطبيعية هي سببية: الطبيعة لها علومها هذا ما يقوله فلاسفة اليونان ومن سار على نهجهم عندنا.. بل وحاول ارسطو انجاز علم الطبيعة رغم العوائق الميتافزيقية كمبدأ عدم تواصل الاجناس.
لقد انجز ارسطو نظرية العلم وما قبلها: الميتافزيقا.
لم يشذ عن القول بالسببية وبالتالي التشكيك في العلاقات الضرورية بين الظواهر الطبيعية الا الغزالي دون نفي العلم…… هذا الغزالي المتهم من طرف سطحيي الفهم/العقل بانه كارثة الكوارث ومصيبة المصائب بل واليه يعود تفسير تعطيل الابداع في حضارتنا وهو العدو الذي يجب ملاحقته وملاحقة اشياعه.
ان التشكيك في السببية يعني في المحصلة الاخيرة التشكيك في العقل ومن ثم الغاء امكان العلم بالطبيعة وهو ما لم يقله الغزالي هو ألغى السببية كمبدإ تفسيري واستعاض عنه بمبدإ آخر هو *مجرى العادات* وهو بهذا يحدث ثورة ابستيمية الا وهي تقريب الظواهر الطبيعية من الظواهر الانسانية *مجرى العادات * يحكم العلاقات البشرية او الظواهر الانسانية وهو ما حال دونها والعلم اليقيني في ابستيمولوجيا اليونان فإذا كان*مجرى العادات* يحكم الظواهر الطبيعية ومع ذلك أمكن العلم بها فما المانع ان يكون للإنسان وواقعه علومه؟ ما يترتب عن القول بـ*مجرى العادات* ان العلم باستثناء المنطق والرياضيات هو نسبي ..والنسبية على درجات بحسب الموضوعات ….بهذه النقلة/الثورة الغزالية يصبح بن خلدون هو الابن الشرعي للغزالي لا كما يدعي م.ع.الجابري هو خريج المدرسة الرشدية ودليل ذلك ان مصطلح *مجرى العادات* موجود في تحاليل وتفسيرات بن خلدون (هنا كثيرا ما يواجه دكتورنا باعتراضات تنبني على مقاصد الغزالي وهو انه لم يكن يعنيه هذه الثورة فهو ينتمي لعهد ابستيمي ما قبل من يعترض عليهم ورد دكتورنا هو من جهتين اولا هدف المفكر ونيته لا يمكن ان يعلمها احد وقد يكون المفكر غير واع بحدوساته ثانيا كل مبدع ومكتشف لجديد لم يكن يقصد ما يصنع فالمبدعون انتماؤهم دوما لابستيمية ضد ما ينجزون مثلا في الرياضيات اللااقليدية كان هدف كل من ريمان ولوباتشفسكي الانتصار لهندسة اقليدس لكن عملهم ادى الى عكس ما يريدون فالتقدم المعرفي والعلمي كثيرا ما ينبني على ما لا يريده صاحبه وهدا من مفارقات الزمان او قل من مكر العقل).
ادا تقريب الظواهر الطبيعية من الانسانية انطلاقا من مصطلح *مجرى العادات* والتشكيك في السببية وتقريب الكل من مجال الحرية لا الضرورة وبالتالي القول بالنسبية دون نفي امكان العلم والمعرفة كان هذا هو الشرط الضروري لفتح المجال امام العلوم الانسانية كي تولد.
لقد كان بن خلدون واعيا بفتوحاته الجديدة وعي سابقه ارسطو بمنجزه فهو يعلن بثقة الافتتاح الرسمي لعلم جديد هو علم التاريخ وبدا بالفعل في افتتاح القارة الجديدة من خلال البحث في الظاهرة العمرانية بفروعها التربوية والثقافية والاقتصادية والسياسية واذا كان ارسطو وهو يؤسس علم المنطق حاول وضع علم الطبيعة في طريق النجاح المعرفي/العلمي قاطعا مع محاولات سلفه افلاطون الا ان عمله لم يكلل بالنجاح لعوائق ابستيمية تتجاوز ارسطو نفسه ولم يصبح موضوع الطبيعة علميا الا مع غاليلي/نيوتن لكنه حسبه شرف المحاولة اما بن خلدون فهو يعترف ان المطلوب هو الاسس أي علم التاريخ وما بعده وباشر عملية الانجاز بنفسه وما على الاجيال اللاحقة الا اتمام المشروع وهو ما لم يقع للأسف لكون الامة العربية دخلت في النوم الحضاري وكأني بدكتورنا يريد استئناف المشروع من جديد مستلهما الفلسفة التيمية/الخلدونية مستعينا بالميراث الانساني مطبقا عليه قاعدة القرآن: التصديق+ الهيمنة……يقول بن خلدون في المقدمة ص664 (وقد استوفينا من مسائله ما حسبناه كفئ له ولعل من يأتي بعدنا يغوص في مسائله على اكثر ما كتبنا… فليس على مستنبط الفن احصاء مسائله وانما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا الى ان يكمل…).
في الحقيقة نحن ازاء طرح خلدوني بنائي وتأسيسي(ايجابي) وهذا الطرح يشترط نظرية في العلم وما بعده لا نجد لها في المقدمة الا رجع صدى او لنقل نجدها عامة غير مفصلة وكان بن خلدون مجرد ناقل بأمانة وهو على ما يعتقد الدكتور ابو يعرب هو قارئ جيد ومطلع على النقد التيمي… فما فصله بن تيمية نجد تلخيصه في المقدمة بل ان اكتشافات بن خلدون هي من نتائج الثورة التيمية.
الاحتمال الاول هوما يتصف به اغلب المبدعين الكبار من التنكر لجميل من سبقهم وهم يضعون لبنات ما يكتشفون فتاريخ العلوم يندر ان تلقى الاعتراف بمن سبق وكأنه نقيصة فهذا ارسطو مكتشف علم المنطق ينسبه لنفسه نافيا التلقي عن الغير في حين ان بصمات افلاطون واضحة.. إذا بن خلدون يطبق سنة عمرانية تتعلق بحقوق الاكتشاف.
الاحتمال الثاني هو انه التقى بتلامذة بن تيمية في القاهرة وتجادل معهم وحاورهم فالهموه بحدوسات وافكار دون ان ينسبها لصاحبها.
المهم ان بن تيمية انتقل بنا من نظرية العلم الارسطية وما بعدها الى اخرى بديلة وهو وعد بصريح العبارة على ان البديل له آفاق معرفية ما لا يخطر على بال أحد وله ثمرات ونتائج عجيبة وكثيرة.
حسب استاذنا الدكتور علينا تجاوز السطحيات والذهاب الى الاعماق في التعامل /التفاعل مع المفكرين الكبيرين كبن تيمية وبن خلدون وحتى تكون قراءتنا سليمة ووجيهة او لنقل حتى لا نظلم أحد او نحمله ما لا طاقة له به علينا ان نقوم بمهمتين:
مهمة فلسفية تاريخية عامة تشمل الفكر العربي الاسلامي كله لتحديد مراحل النضج التي وفرت شرط امكان ظهور بن تيمية ثم بن خلدون
مهمة فلسفية تاريخية خاصة تدرس هذين العلمين من خلال خمس مسائل:
الفلسفة النظرية: المنطق وما بعده بدافع عميق هو اشكالية العلاقة بين العلم/الايمان أي بين الطبيعة/الشريعة (الخصومة الفلسفية /الكلامية).
الفلسفة العملية: التاريخ وما بعده بدافع عميق هو اشكالية العلاقة بين القانون/الاخلاق أي ظاهر الحياة وباطنها أي ما يسمى في ثقافتنا خصومة الفقه/التصوف.
فلسفة الدين: مدخل اول نازل مما بعد النظر الى النظر يجمع بين الفلسفة النظرية والعملية ومدار فلسفة الدين هو العلاقة العلم/اليمان او النظر الفلسفي/العقيدة الدينية
فلسفة التاريخ: مدخلا ثانيا صاعدا من التاريخ الى ما بعده يجمع بين الفلسفة العملية والنظرية ومدار فلسفة التاريخ هو علاقة العمل بالشريعة او علاقة نظرية العمل الفلسفية بالشريعة الدينية.
نظرية الوجود عامة والوجود الانساني خاصة وعلاقة ذلك بفلسفة الدين/التاريخ ومن ثم بالتصور الجديد للفلسفة تصورها نابعة من الفلسفة العملية ببعدها التاريخي وما بعد التاريخي وليس من الفلسفة النظرية ببعدها المنطقي وما بعده.
ينبهنا الدكتور الى ضرورة فهم العلة التي لأجلها كان التاريخ الذي هو موضوع الفكر الديني ومنهجه الاساسي وكان المنطق الذي هو موضوع الفكر الفلسفي ومنهجه الاساسي الموضوع الرئيس في النقدين التيمي/الخلدوني وهي ملاحظة تنطبق على الفلسفة المثالية الالمانية وهو ما يؤكد وحدة الهم الانساني والانتماء الجوهري الى عقل واحد كوني فإشكالية فلسفة الدين/فلسفة التاريخ اشكالية مازالت الفلسفة المعاصرة تقتات منها وتطرحها بالعمق الذي يليق بها.. وهذا ما يمنح المدونتين التيمية/الخلدونية الحياة والراهنية الفكرية بقطع النظر عما يجري في رقعة الشطرنج السياسية.
هاتان المدونتين مثلتا ثورة بمعنيين:
ثورة استدراكية نظرية: هي استدراكية على تأسيس علوم الطبيعة بقلب العلاقة بين المنطق(عمل النظر) وما بعده ( نظر النظر) هنا يذهب استاذنا الى امكانية المقارنة بين بن تيمية/بن سينا مباشرة وبن تيمية/افلاطون بصورة غير مباشرة حيث التعارض بين نظرية النظر الفلسفية ونظرية النظر الدينية أي العقيدة وما بعد المنطق والحل التيمي هو الانتقال من تأسيس الموضوع مباشرة (المنطق/الرياضيات) الى تأسيسه بصورة غير مباشرة من خلال علم ما بعده (نظرية الاستخلاف) وذلك ببيان ان علمية الموضوع(المنطق/الرياضيات) مشروطة بعلمية ما بعده ( الاستخلاف: بما هو قدرة الابداع النظري رمزا بالتسمية والبيان*علم آدم الاسماء*علمه البيان ).
ثورة استدراكية عملية :وذلك بقلب العلاقة بين التاريخ (علم العمل) والمقارنة هنا تجوز بين بن خلدون/الفارابي مباشرة وبين بن خلدون/ارسطو بصورة غير مباشرة وتتعين الاشكالية في التعارض بين نظرية العمل الفلسفية ونظرية العمل الدينية أي الشريعة وما بعد التاريخ والحل الذي يقترحه بن خلدون هو الانتقال من تأسيس علم الموضوع مباشرة (التاريخ/السياسة) الى تأسيسه بصورة غير مباشرة من خلال علم ما بعده( استعمار الارض وهو موضوع علم العمران أي قدرة الانسان على الابداع العملي رامزا له بالتسخير المشروط بما للإنسان من قدرة على السيادة) فعلمية الموضوع ( التاريخ/السياسة) مشروطة بما بعده (العمران) وهو ما يعني وهذا جد هام ولا ينتبه اليه: القول بتاريخية الفلسفة ***ويذهب دكتورنا الى انه اذا كان من ثورة يمكن نسبتها لابن خلدون هي هذه ويستغرب اهمالها في البحوث التي تزعم الريادة في القول الخلدوني وهي ثورة اهم بكثير من بناء التاريخ فلسفيا****** والقول بفلسفة التاريخ ومن ثم التلازم بين الفلسفة/التاريخ لكونهما وجهي العلمية أي البناء المنطقي لشكل ما بعد الموضوع والاستيفاء التاريخي للموضوع.
هنا يسمح استاذنا للموازنة الممكنة بين بن خلدون/هيغل فيما يتعلق بمفهوم التاريخ وما بعده وعلاقة الدين بالدنيا وعلاقة العمل الديني بالعمل السياسي…. وفي الحقيقة ما يبرر هذه الموازنة هوان كليهما يشتغل في فضاء نسختين من الافلاطونية المحدثة الاولى عربية والثانية جرمانية وهنا يحق ان نتساءل من رديف بن تيمية في هذه الموازنة؟ حسب الدكتور هو شلنغ وذلك فيما يتعلق بمفهوم المنطق وما بعده وعلاقة الدين بالدنيا وعلاقة النظر الديني بالنظر الفلسفي…طبعا على جيل الشباب ان يثبتوا هذه الموازنة من خلال بحوثهم…. غير أنى لدي اعتراض يتمثل في ان المماثلة تكون وجيهة بين الرابوعين لان فرضية الدكتور هي ان الثنائي بن تيمية/بن خلدون هما ما بعد الرابوع العربي أعنى بن رشد/السهروردي/الرازي/بن عربي والافلاطونية الجرمانية تفتقد ما يناظر فيلسوفينا أعنى بن تيمية/بن خلدون
الثورة التيمية: النقد الجذري في النظر/العقد وفي العمل/الشرع.
اخترنا بن تيمية كنموذج للثورة ولم نختر بن خلدون وذلك لسببين:
لا احد فيما اعلم يمكن ان يشكك في منزلة بن خلدون وألمعيته وقيمته المعرفية والفلسفية ( اللهم الا من جماعة نكرة تتطفل على الفلسفة وتقتات من شعبة هجينة لا وجود لها الا في تونس هي قسم الحضارة وهي عمل اقرب للصحافة منه للبحث المعرفي او من طفيليات تتغذى من الايديولوجيا الطائفية لا لشي لكون بن خلدون كان صارما في بيان تهافت التشيع ) في حين كل الشكوك حول بن تيمية وخصومه كثر في زمانه من شيوخ التدين الكاذب الى شيوخ المعارف الزائفة اما اليوم فأصابع الاتهام له معلنة وصريحة لا من الشيعة او الصوفية فقط بل ومن النخبة المزعومة فلاسفة ولم يسلم منه حتى رجال الدين الرسميين وزاد الوضع التباسا تبني كبرى دول الخليج لفتاوى وكتب بن تيمية من خلال قراءة سيئة ومنحرفة من طرف الوهابية فظلم بن تيمية مرتين سابقا في حاصره ولاحقا من اتباعه او من يزعم انتماءه لمدرسته.
يرى ابو يعرب ان نقد المنطق والميتافزيقا هي من الموضوعات الكلاسيكية قديما وحديثا وليس بن تيمية/بن خلدون هما اول من سلطا نقدهما تجاهه وانما اهميتهما تنبع من كون نقدهما كان جذريا لأنه طال نظرية المعرفة/الوجود التي حاولت الافلاطونية المحدثة العربية ترميمها خاصة على يد الرابوع الآنف الذكر.
فمطلوب بن تيمية هو نقده للأسس الميتافزيقية التي تنبني عليها المعرفة البرهانية في التحليلات الثانية وهي منبع الاشكالية المنطقية في نظرية البرهان /الحد اشكالية ناتجة او مسكوتها الغير معلن او اسسها هي ميتافزيقا وحدة الوجود قبل الترميم الرابوعي وقوة بن تيمية وابداعيته هو تفطنه لهذا.
ان الثورة التيمية حسب منطوق الدكتور ابو يعرب يمكن ردها الى نظريتين:
نظرية العلم البديل
نظرية الوجود البديل
وهذه هي شروط امكان ابداع:
نظرية عمل بديلة
نظرية قيمة بديلة
وكل هذا المنجز الفلسفي انما يندرج في سياق اصلاح النظر كمقدمة لإصلاح العمل( سلامة العقد شرط لسلامة الفعل ).
فأهمية بن تيمية هو ان نقده بلغ لب الاشكاليات الفلسفية التي بمقتضاها يمكن تجاوز الميتافزيقا القديمة وتعويضها بفلسفة وجود تؤسس للوصل بين العلم/الايمان ..وكان من المنتظر ان يحقق بن تيمية نظريته فيكتب مقدمة في الفلسفة النظرية كما فعل نظيره في الاتجاه ضمن نفس الهدف :الاصلاح أي بن خلدون لكنه لم يفعل وغلب عليه عمل الهدم والتفكيك أي نقد الموجود دون انجاز المنشود وقد يكون السبب المباشر هو انشغاله بالهم السياسي الذي لا ينتظر التفرغ للتنظير والابداع والامة تحدق بها الاخطار من كل جانب وتتكالب عليها الاعداء من الداخل قبل الخارج فغلب على عمله اطفاء الحرائق وهذا ما يقسر لنا كثرة الردود والفتاوى ولم يكن في كل ما كتب يجامل احدا اكان اميرا ام عالما ام مذهبا ام فيلسوفا وهو صاحب التوصيف الشهير والذي طالما اعجب به دكتورنا ( انما اهلك امر هذه الامة نصف نحوي ونصف فقيه ونصف متكلم ويضيف ابو يعرب في تشخيص واقعنا ونصف فيلسوف).
ولكن يقترح ابو يعرب ان يتمم هذا النقص بالاعتماد على نقده وعمله التهديمي اذ لا يخلو منجزه من المعيات وحدوسات وحتى استطرادات وفتح اقواس تجعلنا ندرك المنشود فنبنيه ونصطنعه ففي ثنايا اعماله وحتى فتاويه واقواله وردوده نجد الكثير مما يسمح لنا بالبناء وهذا ما حاول الدكتور انجازه في المجلد الثالث المصاحب لترجمته المثالية الالمانية والذي قام فيه بالموازنة بين المنجز العربي والمنجز الالماني وهو يقترح خطة عمل دون ان يدعي لها الكمال علما وهذا مهم ان بن تيمية تفرغ للجهاد النظري كما العملي وهو فريد في حضارتنا حتى انه شغله هم الامة عن الزواج وكتب الكثير لكن ما وصلنا منه هو الاقل وفيه بين لنا سعة اطلاعه وقدرته على النفاذ الى لب الاشكال وجوهره وهي سمة الفيلسوف والعبقري..
يقترح علينا الدكتور لبيان اهميته وخطورة منجزه نصا يتعلق بنظرية العلم وهو الوجه الاول لان الوجه الثاني أي نظرية الوجود لا يكون مفهوما الا به.
ان عقم القياس الارسطي ليس هو الهام (كونه يتضمن في النتيجة ما يتسلمه في المقدمات وهي ذات ما لاحظه ديكارت) هذا النقد معتاد وهو معلوم للمشتغل بالمنطق واقيسته ولا يمثل اكتشافا رغم وجوده في الخطاب التيمي وانما ما يشدد عليه دكتورنا هو التالي:
التمييز بين ضربين من العلوم وتحديد مجاليهما المختلفين بالجوهر تحديدا يحول بيننا وبين الميتافزيقا التقليدية والتي هيمنت على الفكر البشري
الضرب الاول: يعرفه بن تيمية العلوم الاولية البديهية العقلية المحضة ليست الا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار.
الضرب الثاني: هو نفي هذا النوع من العلوم على ما عدى المقدرات الذهنية معرفا هذا الما عدا بسلب ما تقدم ذكره في التعريف أي …”لا في الامور الخارجية الموجودة “.
امران جليلان يلفت ناظر المتخصص في ابستيمولوجيا العلوم…
التسليم بوجود علوم اولية بديهية عقلية محضة.
نفي ان تكون علوم الموجودات الخارجية من هذا الجنس وبالتالي علومها لا هي علوما اولية ولا بديهية ولا عقلية محضة.
بلغة معاصرة هذه الصفات السلبية تعني نفي كل امكانية للحديث عن التأليفي القبلي بالمعنى الكانطي.
ان نفي بن تيمية فائدة المنطق لا من جهة الآلية وانما من جهة وهم اعتباره ضامنا لجعل علوم الموجودات الخارجية من جنس علوم المقدرات الذهنية أي علوما برهانية…ان المنفي هنا ليس المنطق الصوري بل مفروضاته الميتافزيقية بل اكثر من دالك ما يجعله عين الميتافزيقا كما فهم ذلك هيغل لاحقا ..فلا يكون المنطق اداة تعصم الذهن عن الخطاء بل يتحول الى اداة الايقاع في الخطاء والمغالطة :”ادعاء ان علم المقدرات الذهنية مطابق لعلم الموجودات الخارجية وذلك هو مضمون التحليلات الثانية والميتافزيقا التي تؤسس لنظرية مقومات حقيقة الموجودات التي تعبر عنها القضايا وحقيقة ما بينها من علاقات في الاعيان قيسا لها على ما بين عناصر القضايا في الاذهان”
يرجع بن تيمية هذا الخلل الى الإلاهيات الفلسفية أي الى مسلمات المنطق الميتافزيقية في نظرية الحد ونظرية البرهان والحل البديل هو بين الانطولوجيا الصورية ومثالها الرياضيات الكلية فهي الوحيدة التي يكون فيها العلم مطلقا وبين الانطولوجيا التطبيقية أي علوم الظاهرات الموجودة فعلا ومثالها الرياضيات التطبيقية التي يكون فيها العلم نسبيا يقول “فاذا كانت مواد القياس البرهاني… علم يقيني” لا يمكن إذا لعلم الموجودات الخارجية (المادية) ان يصبح من جنس علم المقدرات الذهنية “
ان جوهر الميتافزيقا الاغريقية وحتى الالمانية هي موقف تأويلي لعلاقات الانسان بالوجود ومفاده ان الوجود منحصر في ما يدركه منه الانسان ولا شيء غير ذلك (ولبن خلدون نص صريح في المقدمة وهو ينقد تاويل الفلاسفة هذا).
النص التيمي يقول هذا وليس هو مجرد اسقاط يعربي من خلال حاضره على النض بل يوجد فيه ما هو أعمق لقد لمح بن تيمية الى مسالتين:
ما بتحرير وجوده وتصوره تنفتح علوم عظيمة ومعارف
ان اسرار عظام الامور التي تظهر ما يجل عن الوصف من الفرق بين الطريقتين الفطرية والمنطقية والاولى قد تكون عقلية او سمعية وهذه هي الوحيدة التي يراها مثمرة ويقول بها (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) والثانية قد تكون قياسية او كلامية وهي التي يراها عقيمة وبالتالي يرفضها.
بن تيمية لم يبين لنا طبيعة هذه العلوم العظيمة وهذه المعارف التي تنفتح وهو لم يفعل ربما لوضوح الامر عنده (وهذا عكس بن خلدون الذي باشر انجاز علمه) لكن براي الدكتور ابو يعرب بتحليل بسيط يمكن ترميم ما لم يتم انجازه : الفصل بين علوم المقدرات الذهنية التي هي الوحيدة اليقينية والبرهانية وعلوم الموجودات العينية التي لا تكون الا تجريبية ومن ثم غير برهانية لافتقارها الى الكلي القبلي يحدد هذا الفصل المنهجي ما المقصود بالعلوم العظيمة والمعارف التي تنفتح فإذا اضفنا الى ذلك الفصل بين الطريقتين المعرفيتين استطعنا ان نعرف ان العلوم عند بن تيمية على نوعين بحسب الوجود في الاذهان والوجود في الاعيان:
كل علوم المقدرات الذهنية التي ضرب منها مثالين هما العدد والمقدار وهما ما كانا يعدان في نظام المعرفة القديم موضوع الرياضيات المجردة واستثنى من التمثيل الرياضيات المطبقة وخاصة الفلك/الموسيقى
كل العلوم التي تعلم بالتجربة سواء استعانت بعلوم المقدرات الذهنية فكانت كافية او استعانت بها ولم تكفها فطلبت مناهج اخرى.. وهنا تأتي اهمية تمييزه بين المنهجيتين:
الطريقة الفطرية العقلية ووصفها بكونها سمعية /شرعية أي الايمانية
الطريقة القياسية المنطقية التي وصفها بالكلامية
يقيم ابو يعرب هنا تناسبا طريفا بين الطريقتين فنسبة الطريقة السمعية الى الطريقة الكلامية هي نسبة الطريقة العقلية الفطرية الى الطريقة العقلية القياسية
وحتى تفهم الثورية المنسوبة لابن تيمية يؤكد الدكتور ان بن تيمية هنا يشير الى المعرفة الدينية وبالتالي الى الصدام الذي عرفته الافلاطونية المحدثة العربية في استعمالها للمنهجيتين في المسائل الدينية اذ عرفت هذه الحضارة مدرستين ان صحت العبارة:
طريقة المتكلمين وهي تعتمد على القياس المنطقي أي الصنعة العقلية لا على الفطرة العقلية ومن ثم لا دخل للسمع فيها
طريقة المحدثين وهي تعتمد على السمع والرواية في مسائل الشرع (الفقه) وفي مسائل العقد( الايمان) وبالتالي كل اعتمادها على الفطرة العقلية
(هنا يفتح الدكتور هامشا مهما لأنه يحررنا من ضيق ما هو مشاع من الفصل بين الفكر الديني والفكر الفلسفي فهذه المقابلة ليست خاصة بالمعرفة الدينية بل تعم كل المعارف لان القصد في كل المعارف هو المقابلة بين علوم المقدرات الذهنية عامة وعلوم المعينات الخارجية عامة فالسماع يتعلق بالبعد التاريخي من المعلومات العقدية والشرعية ومن ثم ما يصح هنا على المقابلة بين المعرفة التاريخية بالسنن والنصوص والمعرفة القبلية لمل يظن حقائق دينية يصح كذلك على المقابلة بين المعرفة التجريبية بالموجودات الطبيعية والمعرفة العقلية بها)
بن تيمية هنا يطلب شروط امكان فلسفة دين مطابقة لمنظور القرآن الكريم هذا ايجابا اما سلبا فهو سعى الى دحض كل ما يعارض شروط الامكان هذه وخاصة عند اكتشافه ان الميتافزيقا الاغريقية وكل فلسفة تجري مجراها تقوم على ثابت بنيوي هي وحدة الوجود معنى هذا ان بن تيمية ادرك المشكل في عمقه تماما كما ادركت المثالية الالمانية ان وحدة الوجود(كما عاينها سبينوزا)تمثل مشكلا فباشر الرابوع عندهم مهمة التخلص من هذه الوحدة.
ان هذا الطرح اليعربي في قراءته للمنجز التيمي/الخلدوني في عمقه يبرر ويعطي له كل الوجاهة في موازنته مع الفلسفة الالمانية المعاصرة. فكيف والحال ان بن تيمية سلط مجهر النقد على المنطق والميتافزيقا؟؟ فكان انجازه المشروع (ومحاولة ابو يعرب في ما يكتبه هو اتمام هذا المشروع) ثورة في نظرية المعرفة والعلم واخرى في نظرية الوجود والايمان.
ان طرح المشكل وهو عويص يدخل ضمن دقيق الكلام وجليله طرح هذا المشكل في حد ذاته يعد ثورة معرفية فلسفية كيف ذلك؟؟
ما لم ينجزه بن تيمية ولكن نقد مقابله هو البحث عن:
تحليلات اواخر(2) تكون بديلا عن التحليلات الثانية لأرسطو وهذه تؤسس مباشرة لحرية النظر ومن ثم بصورة غير مباشرة لحرية العقد (وهذا هو عكس ما ترتكبه القراءة السطحية والعجول من وهابية ومشتقاتها) ان المشكل في زمانه هو كيفية الوصل بين صورة القياس ومادته وهو المشكل الذي يصل المنطق بالميتافزيقا فالتحليلات الاولى تقتضي ان تكون حقائق الاشياء مؤلفة من عناصر مناظرة لعناصر عبارة الحد اما التحليلات الثانية( الاواخر) فتقتضي ان تكون قوانين الوصل بين الحدود مناظرة لقوانين الوصل بين الحقائق التي تعبر عنها الحدود بحيث لا تستقيم الحقيقة الا بهما أي نظام الوجود هو نظام تصورنا وعبارتنا عنه بما يرمز الى تلك المقدرات وهو المقصود بحصر الوجود في الادراك على عبارة بن خلدون الشهيرة او ما يعرف اليوم بنظرية الحقيقة/المطابقة.
الهيات أواخر (2) بديلة عن الهيات الفلاسفة الاواخر ويقترح الدكتور ابو يعرب التسمية التالية التأويليات الاواخر بديلة تؤسس مباشرة لحرية العمل وبصورة غير مباشرة لحرية الشرع.
هنا يوظف الدكتور منهج التناسب باقتدار فيطلق هذا المصطلح قياسا على مفهوم “التحليلات الاواخر ” البديلة عن “التحليلات الثانية” الارسطية ومعنى ذلك انه لدينا ايضا “تأويليات اوائل” يكون موضوعها الانطولوجيا الصورية في حين ” التأويليات الاواخر” موضوعها الانطولوجيا المادية.
الاول هو غاية المنظور الارسطي والعلمي والثاني هو غاية المنظور الافلاطوني والديني وهنا يفتح ابو يعرب الثغرة بينهما ويستثمر كل امكانيته التأويلية لتاريخ الفكر الانساني معرجا على اهمية الفصل السينوي بين الوجود/الماهية وهو فصل ادى قديما والان دورا جوهريا في الفكر الانساني (وهو ما لم يستوعبه بن رشد).
ان الفصل الحقيقي بين الماهية/الوجود هو ما يعتمده كانط لرفض الدليل الانطولوجي او الوجودي في نقده وبذلك جعل كانط الوجود فعل وضع تقوم به الذات وليس خاصية ماهوية من جنس ما يتقوم به جوهر الشيء… وما كان (حسب رأي دكتورنا) يعتبر فعل ايجاد في الهيات التي يدور فيها الكلام على الله في صلته بعمل العالم صار فعل وضع في الانسانيات التي يدور فيها الكلام عن الانسان في صلته بعلم العالم (ثورة كوبرنيكية على ما يزعم كانط صانعها في الفلسفة).
ما غفل عنه بن رشد هو ما طبيعة النقلة من صورة القياس الخالية من المضمون الوجودي الى صورته التي ملئت بالمضمون الوجودي او ما صار يسمى لاحقا في الفلسفة النقدية بالمنطق المتعالي (الذي انتهى الى ان اشترط ان المعرفة/الحقيقة لا تكون بالنومان وانما لما يظهر للذات العارفة) هل لهذه النقلة قوانين ضرورية من جنس قوانين المنطق الصوري ؟؟فتكون تحليلية او رياضية امهي نوع من الخيار الفلسفي الذي يمكن تصوره غير ممكن؟؟ فيكون الاشكال (الهيات) كله دائرا حول هذا الخيار الذي له نتائج خطيرة عقديا كما اثبت ذلك الامام الغزالي؟؟
إذا المشكل هو الوصل بين الانطولوجيا الصورية او المنطق الذي يدرس الصور الخالية من المضمون والانطولوجيا المادية او المنطق الخاص المطبق على المضمونات المعينة لتحديد مفهوم العلم تحديدا يفصل بينه وبين الميتافزيقا.
ان التمييز بين الانطولوجيتين لم يكن واضحا في الحضارة العربية الا على يد بن تيمية/بن خلدون حيث تغير المفهوم كليا في اتجاه التخلص من نظرية الحقيقة/ المطابقة وهذا ما يفسر لنا الحملة الشعواء التي خاضها بن تيمية ضد الصوفية والعرفانية والقرمطية والتشيع والالحاد وفي هذا الاطار يقول “…ويظن انه(الحديث عن المنطق)في نفسه لا يستلزم صحة الاسلام ولا فساده ولا ثبوت ولا انتقاء وانما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطاء في النظر وليس الامر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات…”
إذا المشكل العويص هو مشكل العلم او المعرفة وهو مشكل وثيق الصلة بالوجود وهو: كيف الوصل بين القدر الذهني والوجود العيني وصلا يجعل من المعرفة علما؟؟
هنا يأخذنا ابو يعرب الى اللحظة الراهنة معرجا على مختلف الحلول وهي عنده ثلاثة:
الحل الكانطي: التأليفي القبلي
الحل الهيومي: المعرفة لا تكون الا بعدية (العادة/التجربة)
وهو حل يراه الاقرب لابن تيمية أي حل يتوسط كانط /هيوم وهو ما يمكن ان يستمد من التقدير الذهني فالمقدرات الذهنية ليست ضرورة عقلية تعود للتأليفي القبلي ولا هي العادة التي تعود التوارد والتذكر بل هو الفعل المبدع للسيناريوهات او بلغة ابستيمية معاصرة حرية الفكر في صنع النماذج العقلية الذي يمكن لبعضها ان يطابق بعض ما في مجريات الوجود من وقائع
الخلاصة هي الوعي بان الوجود يمكن ان يكون علمه نسبيا الى اجناس علومه المتعددة بمقتضى طبيعة فعل الابداع الرمزي او القدرة على التسمية التي يرمز لها القرآن بخلافة الانسان ذلك ان اهلية الانسان للاستخلاف هو تعين المقدرات الذهنية المدركة في رحلة الانسان نحو الكدح عبر الآيات الى الله وهذا يستلزم شرط التخلص من وهم حصر الوجود في الادراك وهذا الفهم هو جوهر الرسالة الخاتمة وهذا ما استوعبه كل من بن تيمية/بن خلدون.
إذا أصل الاصول هو فلسفة الدين التي تعين حدود العلم ومجالاته فنحن البشر مقدرو المقدرات الذهنية ونحن موجدوها الوجود الذهني باجتهادنا فنربط عقد اجتهادات ما سبق بما لحق وكل علمنا محدود وفوق كل ذي علم عليم*وما اوتيتم من العلم الا قليلا*
وكل فلسفة تجعل مطابقة ما في الذهن لما في العين هي طاغوت معرفي وخلقي وعملي وسياسي وكل جهاد بن تيمية/بن خلدون هو ضد هذا الطاغوت ما قام به الرجلين هو وضع الاصبع على هذا السرطان الذي ينخر الجسم المعرفي الإنساني.
والمطلوب اليوم حسب الدكتور ابو يعرب هو اتمام هذه الثورة بإنجاز ما لم ينجزه بن تيمية واتمام نواقص المنجز الخلدوني انطلاقا من الواقع الانساني المعاصر في كل تجاربه.