****،
عجبت حقا من النبرة التي تخرج من أفواه قيادة الاتحاد الحالية رغم أنها ليست جديدة. فنبرتهم هذه -المكينة التي تدعي القدرة على رحي كل ما يعترضها- سمعناها منذ بداية الثورة من القيادة السابقة وخاصة بعد الانتخابات الأولى. وهاهي تكرر مع الإدارة الحالية التي تلتها.
والسلاح واحد:
الابتزاز بالحرب على موارد رزق من تدعي حمايتهم بتسييس دورهم وفرض رأيهم في كل ما يتعلق بكل وظائف الدولة بعد السيطرة على إدارتها وخاصة على إدارة الوزارات والشركات التي تملكها الدولة.
ومن ثم فالاتحاد العمالي صار أداة الاحزاب التي ليس لها قاعدة سياسية فعوضتها بالسيطرة على قيادة القاعدة النقابية.
وإذا كان ذلك كذلك فما علة العجب الذي اعبر عنه بخصوص القيادة الحالية؟
إن سر عجبي هو أن القيادة الحالية ليست جاهلة بأنها فقدت كل ما يجعلها تتصرف مثل القيادة السابقة. فهي لم يعد لها أدنى سلطان على القاعدة النقابية بعد أن أدرك العمال أنها تهدد موارد رزقهم: وما أظنهم جاهلين بذلك.
فإذا ما استثنينا الاقلية اليسارية والقومية التي توجد في القاعدة والتي تتحرك بدوافع سياسية وليست نقابية وخاصة في قطاع النقل وقطاع التعليم فإن قيادات الاتحاد يكذبون على أنفسهم عندما يهددون بالتحرك مع علمهم بأن الكل يعلم أنها عنتريات.
وهم يحاولون تجنب التحرك إلا بشرطين ويعتقدون أنهما متوفران بسبب أمر لا علاقة له بالنقابيات التي لم يعد لها هامش اللعب بأرزاق الناس في أزمة خانقة نكص فيها الدخل القومي الخام بصورة مخيفة:
الشرط الأول:
إذا وجدوا ما قد يبدون فيه مدافعين عن “مظلومية” لها ما يبدو قابلا للتصديق من قاعدتهم.
وهي معارك في الغالب غير نقابية بل هي
1-إما قضائية يسهل فيها اتهام القضاء الذي لم يتعاف بالقدر الكافي أو لم يتوطد تعافيه بما يحول دون التسرع في اتهامه.
2- أو خاصة ما يسهل اعتباره تسيسا ضدهم كلما تعلق الأمر بمقاومة الفساد الذي يسهل وصفه بكونه للتوظيف السياسي وليس سياسة إصلاح فعلية.
الشرط الثاني:
معركة سياسية يسهل الركوب عليها بدعوة من الأحزاب التي تحتاج للتجييش:
1-كما فعلوا في أواخر حياة الباجي الذي كان يطلب المدد لحزب انفرط عقده وفقد السيطرة على الحكم.
2-وكما يحاولون الآن ركوب مشروع قيس سعيد الذي يريد ضرب مؤسسات الدولة الشرعية.
فسعيد بحاجة إلى مدد ويأمل الاعتماد على الاتحاد لتحريك الشارع بعد أن أدرك أن مخاتلته لم تعد تنطلي على الشعب الذي فهم أهداف المشروع وما يمثله من خطر على مستقبل البلاد.
فهما إذن يشتركان في تهديد السلم الأهلية وخاصة على الحريات ومستقبل سيادة تونس.
فكيف أفهم إذن المعارك الأخيرة للاتحاد وعلاقتها بمشروع سعيد؟
1- أولا لا بد من الاعتراف بفارق كبير بين التحالف بينها وبين الاحزاب إذا قورن بالقيادة الماضية وخاصة في مرحلة الترويكا.
فتلك كان موقفها هجوميا وهذه موقفها دفاعي.
2-ثانيا الحلف بينها وبين سعيد وكلاهما يعلم أنه فقد قدرته على تحريك القاعدة السياسية والقاعدة العمالية بما في ذلك أصليها التجاريين الاقوى أي النقل والتعليم.
ونحن نعلم ان القيادة السابقة انتهت بفرض إرادتها والحل الذي تصورته والذي كما كتبت عديد المرات لم يكن يهدف إلى ذبح الدجاجة التي تبيض الذهب خاصة وقد رأوا أن تعطيل الحياة الاقتصادية والمساس بموارد الرزق بدأ يبعد عنهم القاعدة العمالية.
وكما فشلت في انقاذ نفسها وامداد السبسي فهي ستفشل في انقاذ نفسها وامداد سعيد
ومثلهم كان ارباب العمل لأن المعركة الآن لم تعد مع الترويكا حتى وإن كان السند الخارجي الآن أقوى في الحرب على الثورة والإسلاميين.
لكن العمال والاعراف مدركون لما تعانيه البقرة التي يشتركون في رضعها أي الدولة وإذن فعسير ألا يكونوا حريصين بالذهاب إلى غاية المعركة والمحافظة على بقائها وحتى على المساعدة في الخروج من المأزق السياسي الذي أوصلوا إليه البلاد كما حصل في حربهما على الترويكا.
فالبقرة جف ضرعها والقاعدة العمالية وحتى قاعدة أرباب العمل صارت خائفة من هذه الوضعية. ولذلك فهي لم تعد في موقف المهاجم بل المدافع. وليست تحارب من أجل مطالب إيجابية بل هي من اجل منع المحاسبة على المنافع السلبية التي نتجت عن الفساد والهيمنة على مفاصل الدولة.
المعركة إذن ليست هجومية مثل ما حصل في بداية الثورة بل هي دفاعية مع العلم أنها ليس لها ما تستطيع الدفاع به أعني لا يمكن أن تحرك الشارع العمالي. وهذا هو سر العنتريات والعجز دون التجييش الذي يطمئنهم.
وأرباب العمل وخاصة من الذين يسيرون الاقتصاد الموازي يوجدون في نفس وضعية اتحاد العمال بسبب هشاشة قاعدتهم التي تنتسب إلى التهريب استيرادا للبضائع وتوزيعا لها في السوق التونسية.
وهي معركة ذات مستويين:
مع من لم يتورطوا بعد في الفساد من السياسيين القدامى
ولكن خاصة مع الجيل الجديد الذي يحارب الفساد سواء بصدق أو كشعار سياسي يركبونه للحصول على موقع سياسي والاستثمار في المستقبل.
وهم لا يخافون من هؤلاء الذين يوظفون شعارات الحرب على الفساد بل ممن يمكن أن يعتبروا “انتحاريين” في هذه المعركة أي شباب الائتلاف وبعض المتطوعين بجد مثل الأخ الفاضل الاستاذ عماد الدائمي وجمعية أنا يقظ.
خلاصة القول هي أن ما يحدث في صفاقس يلخص المسألة: قيادة الاتحاد عندها معركتان.
داخلية يمكن تسميتها بإشكالية التمديد
وخارجية يمكن تسميتها بإشكالية الفساد:
1-والاولى تخسرهم الكثير من قاعدتهم وهم لا يجهلون ذلك وهو ما يخيفهم حقا ويربكهم.
2-والثانية يمكن أن تأتيهم بالمدد من أعداء الائتلاف الذين يخافون من جدية السعي للحسم الفعلي في مسألة السيادة.
ولهذه العلة فالمعركة مع القضاء الحالية كانت علتها “باندية” الصحة في صفاقس وعلاقتهم بأحد نواب الائتلاف وهي ربما من الصدف التاريخية لكنها ذات دلالة حقيقية وتعلل حصر الهجوم على مجلس النواب من بين مراكز السلطة الثلاثة.
وفي هذه الحالة لا بد لهم من مركوب:
داخلي هو حزب سعيد ضد النهضة وهم يعتبرون الائتلاف باراشوك النهضة
وحزب الثورة المضادة بصفيها التابع لإيران وروسيا والتابع لإسرائيل وفرنسا ضد الثورة.
فتكون المعركة ليست معركة قيادة الاتحاد وحدها بل معها الحزبان المسيطران عليها والاحزاب والشخصيات السياسية التي تمولها الثورة المضادة ومشروع سعيد.
وكل هؤلاء يعانون خاصة مما يجري في ليبيا والجزائر وعلامة ذلك حربهم العلنية على تركيا:
فعندهم التدخل الاجنبي الوحيد في ليبيا تركي أما فرنسا وروسيا والثورة المضادة العربية بشقيها فتدخلها جزء مما يسمونه الحل الليبي الليبي لأن فاجنار والجنجويد والتشاديين وسلفيي المخابرات كلهم ليبيون أب عن جد.
والمعلوم أن هذا أيضا سيخسرهم كل الجنوب والوسط الذي يعتبر ليبيا مورد رزقه الأساسي.
تلك هي علة عجبي:
اعتبر تهديدات الجزار -القصاب- عنتريات دالة على الضعف وقياسه لتحركه بأنه
ليس لعب بنات إشارة واضحة إلى ما يخشاه حقا: فهو يعلم أنه لن يجمع أكثر من “البنات” في 14 جوان.
ولا التي تقدمت عليها أي ما سماه لعب الاولاد حتى لو نزل معه من أعدهم سعيد لتحقيق مشروعه لأنه فقد كل قدرة على فعل شيء بعد “غزوة” باريس ومحاولة تبرئة الاستعمار بتخريف القانوني الشكلي.
قد يكون بعض المتأدلجين لا يعنيهم ذلك.
لكن الشعب يعنيه أيما عناية:
فالكثير منه له في اسرته من عاش المقاومة واستشهد أو من ما يزالون أحياء وخاصة في القرى والأرياف.
ثم لأن مسألة الحرب على الفساد بفضل كورونا قد صارت فضيحة دولة ولم يعد أحد قادر على ردم رأسه في الرمل بل الجميع بات يحمل الرئيس ليس أخطاءه وحدها بل جرائم حكومته التي جل النافذين فيها إما فسدة أو متواطئين مع الفسدة.